الحق الذي يجب الإيمان به – تبعًا لسنن الله في الكون – أن الحق إذا تخلى عن جوهره، وتمسك الباطل بحقيقته فإن الباطل ينتصر على الحق؛ لأن حقيقة أي شيء تتغلب على مظهر أي شيء، ولو كان هذا المظهر هو مظهر الإسلام، وتلك الحقيقة هي حقيقة الباطل، كما قال الشهيد سيد قطب. لذلك ذكر لنا ربنا في كتابه العزيز آيات كثيرة تحمل لنا حقيقة هذه السنن، وهي تحمل في طياتها أحوال الجاهلية المعاصرة، فأوضاعها كلها مذكورة في السنن الربانية الواردة في كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بل يعجب الإنسان حين يتلو الآيات كيف انطبقت بحذافيرها على أوضاع الجاهلية المعاصرة كأنما أُنْزِلت بشأنها، مع أنها أنزلت قبل أربعة عشر قرنًا .. ذلك أن الجاهليات كلها متشابهة في جوهرها، وإن اختلفت في تفاصيلها، وكان لكل منها خصائصها التي تشكلها ظروف الزمان والمكان والسنن الربانية متعلقة بالجوهر وليست متعلقة بالأشكال. ويقول الأستاذ محمد قطب: لن يستطيع الإنسان أن يفهم هذه الحقيقة فهمًا صحيحًا إلا من خلال تدبر آيات القرآن الكريم، بل لن يفهم هذه السنن على حقيقتها إلا مَن أَنْعَم النظر في كتاب الله متفكرًا فيه، فعلينا "أن نتدبر مجموع السنن الواردة في الآيات التالية، ذلك أن السنن الربانية لا تعمل في الغالب فرادى إنما تعمل مجتمعة، وخاصة في حياة المجتمعات والشعوب وتلك الآيات هي: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) (البقرة: 365) في تلك الآية ظهر أن العداء سيكون في الأرض، وهذا العداء في حقيقته بين الحق والباطل، ثم وعدت الآية كلا الفريقين بالاستقرار في الأرض والتمتع بها إلى أجل. ثم بين ربنا سبحانه وتعالى في سورة الإسراء أن عطاءه موصول لكل البشر؛ إنْ مؤمنين وإنْ كافرين: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء: 20). فالكل - كما يقول الإمام الرازي - مخلوقون في دار العمل، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل. بل إن الله تبارك وتعالى وعد من سعى إلى الدنيا لا يريد غيرها وفَّاه الله مطلبه، إن هو أخذ بأسباب هذا السعي: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ( (هود: 15) نزلت في الكفار، قال الضحاك، واختاره النحاس، بدليل الآية التي بعدها: )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ( (هود: 16) أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. بل إن آية من الآيات التي أوردها الله ليعلم عباده المؤمنين فقه السنن الإلهية وأثر هذه السنن في البناء الحضاري على مر العصور تبدو عجيبة لأول وهلة، لأنها تبدو في الظاهر مناقضة لما نتصور نحن – دون تعمق – من أمر السنن الربانية التي يجريها الله في حياة البشر، إذ تقرر هذه الآية أن الكفار حين نسوا ما ذكروا به – أي نسوا ما نزل من الوحي على الأنبياء والرسل – فتح الله عليهم أبواب كل شيء، ومكن لهم في الأرض: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 44، 45). ونتصور لأول وهلة أن هذا مناقض لوعيد الله للكفار بالتدمير عليهم، ووعده - على العكس من ذلك – بمنح التمكين للمؤمنين الذين يعبدون الله حق عبادته ولا يشركون به: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55). هذا التناقض الظاهري – في تصورنا – يزول عندما ننعم النظر في الآيات، ونزداد تعرفًا على السنن الربانية. إن الله – عز وجل - لم يحظر العطاء الدنيوي على الكفار ابتداء، بل بذله كما رأينا لكلا الفريقين: المؤمن والكافر سواء، ومن العطاء التمكين في الأرض كما سبق القول، وبيان ذلك أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فهو يعطي منها الكافر لهوانها عليه سبحانه وتعالى، أما الآخرة يدخرها للمؤمنين وحدهم. يقول صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعطي الدنيا لمن أحب ومن لم يحب، ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن أحب". هذا العالم لا يسير جزافًا، ولا يتحرك اعتباطًا، بل كل شيء فيه بقدر، وكل حركة فيه وفق قانون، وهو الذي يسميه القرآن: سنة، سواء أكانت سنة كونية أم اجتماعية. وأن هذه السنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول، وأنها تجري على الآخرين كما جرت على الأولين، وأنها تتعامل مع أهل الإيمان كما تتعامل مع أهل الكفر: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (فاطر: 43). لا يستطيع أحد أن ينكر ما وصلت إليه أحوال العالم الإسلامي اليوم من التردي والهزيمة؛ الهزيمة النفسية قبل الهزيمة العسكرية، ولم تكن تلك الهزيمة وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى بداية الدولة الأموية، حيث ابتدعت نظامًا فاسدًا، نظام الملك العضوض، الذي مزق جسد المجتمع المسلم. مدير المركز الحضاري للدراسات المستقبلية [email protected]