في كل الجرائم المتعارف عليها تكون مهمة رجال الأمن والقانون هي البحث عن الفاعل الذي نفذ، وتقديمه للمحاكمة العادلة والقبض على من ساعده ومن أمده ومن وراءه. وبعض الجرائم التى تتكرر وتتحول إلى ظاهرة تنضم فيها جهود رجال الفكر والثقافة والتحليل العلمي إلى جهود رجال الأمن ورجال القانون للبحث في مثل تلك الظروف عن أسباب الظاهرة والمناخ الذى أوجدها. ونعرف أن جهودا أمنية مضنية تبذل الآن في البحث عن المجرمين والأخذ بثأر الوطن ممن قتلوا أبناءه جنودا ومتظاهرين في ماسبيروا ، لكن جهودا فكرية وثقافية أكبر يجب أن تبذل في تناول القضايا الحيوية المتصلة بأمن الوطن في الحاضر وتأمين مستقبله من الانفلات والفتن، وتجنب ثقافة العبث والشحن الطائفي والكراهية، وكلها ممارسات ساعدت وتساعد على وجود مناخ الفتنة والفرص المواتية للمتربصين بالوطن لينفسوا عن حقدهم وينفذوا خططهم. وإذا كان البكاء على اللبن المسكوب لا فائدة منه كما يقال في المثل، إلا أن المسكوب هنا ليس لبنًا وإنما هو دماء بشرية بريئة طالتها أيدى التعصب الخسيس والتهور الأعمى وغرربها البحث الملعون عن دور في عالم الزعامة المستقبلية لدى القمص الذى هدد المحافظ بالقتل وتوعد أن ينفذ تهديده خلال 48 ساعة مالم تنفذ مطالبه. كان يجب أن يحمل هذا التصريح على محمل الجد لدى سلطات الأمن ورجال الرصد والمتابعة، وأن الأمر جد لا هزل فيه، وخطرا لا لعب فيه. المصاب الجلل الذي جرح قلب الوطن وأسال في ماسبيرو دماء أبنائه مسيحيين ومسلمين بعمل همجى يجعلنا نبدأ بتقديم العزاء لأهل الضحايا الذين هم أهلنا جميعا في الوطن كله ، وأن نعتذر لمصر ولكل أبناء مصرعن عقوق بعض أبنائها وشرودهم عن جادة الطريق في التعبير عن مطالبهم حتى وإن كانت محقة ومشروعة. الاعتذار هنا لأسر الضحايا ولمصر كلها مسلمين ومسيحيين فقط وليس لرموز ولا لمؤسسات، لأن الرموز هم الذين غرروا بهؤلاء الضحايا وشحنوهم بثقافة العبث والكراهية حتى قسموا الوطن في نفوسهم وعقولهم إلى "أقلية مهضومة الحقوق مسلوبة المواطنة تعيش تحت الضغط والإكراه من غرباء جاءوا إليها محتلين من جزيرة العرب." لست هنا في مجال الاستطراد لما قاله وكتبه البعض موثقا في مظانه ومكانه، كما أنى لست أبحث عن دليل الإدانة لأسوق الاتهام مقرونا به، بقدر ما أعرض نماذج لثقافة العبث التى تشبعت بها شرائح من المجتمع المصرى على مدار العقود الأربعة الفائتة. الطرح هنا اليوم لتضميد الجراح ودعوة العقلاء ليتدارسوا أسباب الفتنة وينزعوا فتيل الحريق قبل أن يبدأ . تضميد الجراح يتطلب حوارا يبحث في المشترك القائم فيعظم دوره ويتفاعل مع قيم الجماعة الوطنية التى تعارف الوطن عليها وأقرها في وجدانه ومارسها تطبيقا متسامحا واخوة في البيت الكبير بيت الوطن الواحد لأكثر من عشرة قرون. الحوار تفاعل يبحث عن حق يضيئ ، وهو لغة المتحضرين وأسلوب الأقوياء، بينما التعصب انفعال وحماس يشتعل يدفع بالمرء أحيانا للخروج على قيم الإخوة والمواطنة . الحوار يعتمد العقل ليناقش، ويحترم المنطق ويسوق الحجة والبرهان ، بينما التعصب يعتمد الهياج ويسوق الحشد والتجييش، ويعتبر المنتصر هو الأعلى صوتا والأكثر هرجا وضجيجا. الأول يبحث عن الحقيقة وينحاز إليها وينضم للطرف الآخر إن كان الحق معه والعدل بجانبه ، بصرف النظر عن الاختلاف أو حتى عواطف الحب والكره. بينما الثانى انتهازى لا يعنيه إلا تحقيق الأجندات الخاصة، والضغط للحصول على أكبر قدر من المكاسب ولو بغيرحق. أبناء مصر "مسلمون ومسيحيون" يحتاجون إلى تفريغ شحنات العبث التى امتلأت بها عقولهم على مدار 40 سنة في بعض دور العبادة. تلك الثقافة التى لم تعتمد مقولة الدين لله والوطن للجميع ،وإنما اعتمدت نظرية الفوضى الخلاقة التى تتخذ من الدين وسيلة للسيطرة على الناس وتجعل منه سبوبة للكسب الحرام ،واعتلاء الظهور وتحقيق النجومية والبحث عن دور في عالم الزعامة وتعلن شعار الدين ديننا، والوطن وطننا ، ونحن أهله وأصله ،وأهلا بالفتنة والتقسيم. ثقافة العبث والكراهية على مدار السنين الأربعين الماضية ولدت أجيالا لا تعبد الله بقدر ما تعبد أهواءها، فكلام الله يقرر التعددية في الأجناس والعقائد والرؤى ويجعل من ذلك وسيلة للتعارف والتعاون والبر بخلق الله ومحبتهم وليس كراهيتهم واعتبارهم غرباء على أرض الله . يفترض في كل منا وفي هذا الظرف بالذات أن يتجرد من أهوائه ومطامعه وأن تكون الدماء التى سالت في أحداث ماسبيرو قد طهرت نفوسنا من الكبرياء وطموحات الزعامات الشخصية، لتجعل من كبرياء الوطن الجريح مظلة تجمعنا تحت رايته وتذيب ما كان من خطايا الماضى، وما تم من شحن عقول الأجيال الجديدة خلال الأربعين سنة الماضية بسخافات معروفة ومتداولة جرت على ألسنة الكثيرين في الداخل والخارج تتحدث عن اضطهاد موهوم واغتصاب واحتلال وغير ذلك من ثقافة الكراهية والعبث ، وما يتبعها من سخافات بالطبع ليس هذا مجال ذكرها اليوم. في مثل تلك الظروف يجب أن نتحامل جميعا على جراحنا ونعلو على كل توابع وأثار الفقد والحزن، وأن نعي خطورة المرحلة القادمة، وأن نساعد على تنظيف جراح الوطن قبل تضميده لتكون المعالجة على أسس صحيحة، وحتى لا تكون هنالك فرصة أخرى لجراثيم التطرف والتعصب لتنمو وتزداد . تحقيق ذلك يقتضى وقفة صادقة مع الذات ولا أقول مع الذات والآخر، لأن مكونات هذا الوطن ذات واحدة وإن اختلفت عقائدها، ومن ثم يجب ألا يكون لثقافة العبث وجود بين أبنائه ولا يحكمه إلا قانون واحد يطبق على الجميع وبلا استثناء . الوقفة مع الذات تتطلب تحقيق أعلى قدر من الصدق والموضوعية مع النفس وذلك بترك المراوغات والتخلى عن مواهب الخداع والكلام المعسول والحديث عن مصطلحات يقصد منها عكس معناها. فكثيرون هم من يتحدثون عن المحبة وهم يبثون الكراهية، ويتحدثون عن الوحدة وهم يقصدون الانفصال ، ويملؤون الدنيا بحديث رائع عن الوطن بينما أفعالهم تحض على تمزيق وحدته. الحد الأدنى في حديث المكاشفة يتطلب الوعي بأن الذات المصرية واحدة في مكوناتها النفسية والخِلْقية والبيولوجية ، وأن الطبيعة الاجتماعية والبيولوجية للإنسان تشكل جهازا غاية في الوحدة، ومن ثم فلا فرق بين إنسان وإنسان، بصرف النظر عن دينه والبيئة التى نشأ فيها، في الصعيد أو في الأسكندرية، في الشمال أو في الجنوب ، خطورة شعور البعض بالتمييز السلبي يقوض ثقة المواطن في مؤسسات دولته، ومن ثم يبحث عن مظلة أخرى تشكل في العقل الجمعى هوية بديلة لا تدين بالولاء للوطن، وإنما تدين بالولاء للجهة التى تدافع عنها وتتبنى قضاياها، ومن ثم تحدث ازدواجية السلطة والسلطان. التمييز السلبي يقوض ثقة المواطن في مفهوم العدالة ومؤسسة القضاء ويجعل ترسانة القوانين بما فيها قانون الطوارئ مجرد حبر على ورق. العمل الهمجى الذى تم وأدمى أطراف مصر وجرح قلبها كشف عورات الثقافة السائدة لدى النخب التى تولت معالجة القضي إعلاميا، فبدا التسطيح والتمييع والالتفاف حول الحقائق وترك الأسباب الحقيقية التى أدت بنا إلى هذه الحالة. يجب أن نتعلم من آلام الفقد أن حياة ووجود كل منا مرتبط بحياة أخيه ووجوده ، وأن الشعور بالتمييز السلبي لا يجلب لنا غير الخراب والدماء والعلقم . وأن اللعب في تغيير الهوية يشكل نوعا من انتحار الذات، ثم هو خيانة لمفهوم الوطنية ،وخروج على قواعد المواطنة ،وزراعة صناعية لأشجار الفتنة الطائفية المرة التى لم تجن منها دول كثيرة غير المرار والعلقم . مفتى أستراليا