بعيدا عن موضة "حظر النشر" فى القضايا التى تهم الراى العام بدءا بقضية مبارك والعادلى المتهمين بقتل الثوار , مرورا ب"موقعة الجمل" , وصولا إلى قضية مقتل الشاب السكندرى خالد سعيد المُلَقَب ب"شهيد الطوارئ" ,التى تنظرها محكمة جنايات الأسكندرية , و المتهم فيها أمين شرطة ومخبر سرى ,إذ قررت المحكمة ,فرض السرية على تفاصيل المحاكمة اعتبارا من الجلسة القادمة المقرر لها يوم 10)/22 ) .. فقد شهدت المحكمة بجلستها الأخيرة المنعقدة يوم السبت الماضى ( 9/24),إعلانا مدوياً بسقوط مصلحة الطب الشرعى فى بئر سحيق من الفساد والظلمات والشكوك , ,وتأكيداً على أنها لم تعُد تلكَ المؤسسة "الفنية" المهمة المنوط بها تحقيق العدل, بوسائل علمية وأدلة ثبوتية يقينية , وأنها تكاد تفقد الصلاحية تماما , وأن غالبية التقارير الطبية الشرعية الصادرة عنها, تجردت من المصداقية, وتخلت عن المنطق, وخلعت عنها "الصفة العلمية", وتحولت إلى مجرد "أداة غبية" فى يد سلطات النظام البائد لتقنين الظلم, وتبرئة القتلة, وتوفير الحماية من العقاب لسُرَاق الآدمية المنتسبين للأجهزة الشرطية والأمنية , مرتكبى جرائم التعذيب البشعة فى الأقسام والمراكز الشرطية والأمنية والسجون والمعتقلات..هذا الإعلان المدوى بإدانة مصلحة الطب الشرعى وتجريدها من الحيادية , جاء فى صورة تقرير علمى محايد أعده أساتذة للطب الشرعى بثلاث جامعات حكومية , تكونت منهم لجنة برئاسة نائب رئيس مصلحة الطب الشرعى , لدراسة قضية خالد سعيد كلها,بتكليف من المحكمة , وجاء تقريرهم الذى تسلمته المحكمة بجلسة السبت الماضى, ليقلب خط سير القضية رأساً على عقب, مؤكداً أن الشاب لم يمت مختنقاً , وأن "لفافة مخدر البانجو" , تم حشرها عنوة فى حلقُه بعد فقدانه الوعى ,إثر تعرضه للضرب المبرح والمتكرر على الرأس والجبهة ,مما أسفر عن قطع الوصلات العصبية بالمخ , ومن ثم فقد شَدَدَ التقرير على"استحالة" أن يكون خالد قد ابتلع اللفافة إراديا. للتذكير.. كانت المحكمة قد سبق لها"قبل الثورة" , أن أمرت باستخراج جثة الشاب وتكليف لجنة طبية شرعية ثلاثية برئاسة كبير الأطباء الشرعيين ورئيس مصلحة الطب الشرعى , الدكتور السباعى أحمد السباعى شخصيا (المُقال بعد الثورة ) ,بإعادة تشريح الجثة وإعداد تقرير نهائى , بنتيجة التشريح ,وتحديد أسباب الوفاة ,وقد أكد السباعى ولجنته , أن "لفافة البانجو" الشهيرة هى المسئولة عن الوفاة , بزعم أنها انحشرت بالمسالك الهوائية , عند محاولة ابتلاعها , ويكاد يكون هذا التقرير, مجرد ترديد لنفس "رواية" الشرطة , وبيان وزارة الداخلية الصادر آنذاك بشأن واقعة مقتل الشاب.. بينما أكد شهود الواقعة فى أقوالهم الرسمية أن الشاب كان قد قُتل صفعاً و ضرباً وركلاً , بيد رجلى الشرطة على رؤوس الأشهاد جهاراً نهاراً بأحد مقاهى الإنترنت بالإسكندرية.. والمصيبة الكبرى هنا فى هذا التواطؤ المفضوح من لجنة السباعى "الثلاثية العليا" التى يٌفترض فيها الرفعة والنزاهة والحياد وتحرى الدقة والعلم والحقيقة؟ وما يعنيه ذلك من تبرئة للجناة, و كذلك بلوغ موات الضمير والظلم والتزييف حداً مفزعاً ومشيناً بالتلاعب فى تقارير أسباب وفيات شهداء الثورة النبلاء ,وإهدار دمائهم الغالية , حسبما تبين بعد الثورة وهو ما أدى إلى خلع السباعى من موقعه رئيسا لمصلحة الطب الشرعى وكبيراً للأطباء الشرعيين . قضايا شهداء الثورة و خالد سعيد وإن كانت هى الأشهر , فإنها ليست السوابق الوحيدة التى تسقط فيها مصلحة الطب الشرعى , وتنتصر للمجرمين على حساب العدالة والإنصاف,فهى مجرد "خطيئة" ضمن سجل كبير للخطايا , فقد شهد عصر المستبد مبارك حالات إهانة وتعذيب وقتل بيد "عناصر بوليسية",بشكل شبه يومى , فيما كانت مصلحة الطب الشرعى تلعب دور"المحلل" لتسهيل إفلات هذه العناصر الجانية من الحساب, ونعلم ان كثيرا من الضحايا تصدُر لهم تقارير طبية شرعية ,بان الوفاه جاءت نتيجة هبوط حاد ومفاجئ بالدورة الدموية أو القلب, وكأن القدر قد خصًص هذا ال"هبوط حاد" للمتوفين فى السجون واقسام الشرطة وحدهم .. وإذا كانت المصلحة قد لعبت دور "المحلل" هنا تحت الضغوط , فإن المثير للدهشة والغرابة هو إهدار دماء الشهداء "تطوعا" دون ضغوط من أحد, إذ كان النظام منهاراً , وكذلك الأجهزة الشرطية والأمنية (!!) . وإذا علمنا أن هناك نسبة لا يستهان بها من القضايا , تقوم المحكمة بتنحية التقرير الطبى الشرعى , وتصدر حكمها على خلاف ما جاء به , بما يعنى أن مثل هذه التقارير الطبية الشرعية "المُنحاة" يشوبها قصور, وأخطاء علمية وفنية,وتلك مسألة غاية فى الخطورة ,لأنها تعنى استهتارا شديدا بالعدالة وبمصائر الخصوم والمتهمين والأفراد المعنيين , وهذا مع التسليم بحُسن النيةهنا. إن الذى يعنينا بالأساس هو كيف نمنع تكرار مثل هذه الخطايا الطبية الشرعية المقيتة مستقبلاً ؟ , فهى خطايا تنال من قيمة العدل والإنصاف , و تتوج لشريعة الغاب وتؤصل لها..إذ أن التقريرالطبى الشرعى الخاطئ يمكن أن يودى بالبرئ الى حبل المشنقة والعكس بتبرئة القاتل أو الجانى..ذلك أن "الطب الشرعى",هو علم يختص بالعلاقة بين الطب والقانون , وقد لا يتنبه البعض منا الى ان العلاقة بهذه المثابة انما تمتد لتشمل شتى مناحى الحياة ويكون من السخف اختزال القضية فى نواحيها "الفنية" والتى هى مهمة على كل حال, فإذا زعمت انثى انها تعرضت لحادث هتك عرض او تحرش جنسى ,أو فعل مخل أو اغتصاب أو إجهاض او ماشابه , فإن الطبيب الشرعى هو الذى يستطيع ان يقطع لنا بحقيقة "ماحدث" وتفاصيله, من خلال علامات واعراض ظاهرة وباطنة , وفى حالة وفاة مواطن أو إصابته بعاهة مستديمة ,اثر مشاجرة او خطأ طبى جراحى أو حادث عارض أو غير ذلك , فإن كلمة الطبيب الشرعى هى الفاصلة , تحدد لنا الكيفية والأداة وزمن الحدوث , وما إذا كانت الرصاصة القاتلة مثلا قد هبطت من أعلى أو الأمام أو الخلف , وقُل مثل ذلك عن ضحايا التعذيب الشرطى , وشهداء الثورة و جرحاها , ويكون تقرير الطبيب الشرعى هو بمثابة "البينة" أو "الدليل الفنى" القاطع الذى يستند اليه القاضى , فى "إدانة" أو "تبرئة" المتهمين فى الحالات المشار إليها وغيرها,وفى تقرير الحقوق والتعويضات, ولذلك يطلق على الطب الشرعى مسمى "طب العدل"تأكيداً على أهميته الكبرى فى تحقيق العدل بين المتنازعين والخصوم وكل من ينشد حقاً او يدعيه, ومن ثم شيوع العدل والذى هو اساس الملك فى المجتمع .. وقد أكد لنا القرآن الكريم هذه الأهمية , بأن أورد "تقارير طبية شرعية" فى مواضع مختلفة منه , كانت بمثابة الدليل الفنى القاطع قبل الحكم فى القضية , منها على سيبل المثال ماورد فى سورة يوسف , عندما زعمت إمرأة العزيز أن سيدنا يوسف عليه السلام راودها عن نفسها, فإن زوجها أحتكم لمن وصفه القرآن الكريم ب"شاهد من أهلها", وهذا الأخير كان بمثابة الطبيب الشرعى , وقام بفحص قميص سيدنا يوسف , وبناء على ماوجده من تمزق للقميص من الخلف , حكم ًببراءة يوسف, وتكذيب إمرأة العزيز وأنها هى التى حاولت ترويده عن نفسه , وليس العكس. إن هناك حاجة ملحة إلى قرارحكومى بتشكيل لجنة محايدة من علماء الطب الشرعى بجامعات مصر وهم كثُر,مع عدد من كبار الأطباء الشرعيين السابقين, ليجدوا حلولا للشق "الفنى" فى المسألة و منع الأخطاء الفنية التى تشوب بعض التقارير الطبية الشرعية, وأما الجانب الأكثر خطورة فيكمن فى لعبة "تسيس"التقارير الطبية الشرعية وتطويعها لخدمة أغراض ضيقة على حساب "العدل", مثلما حدث مع شهداء الثورة ,وخالد سعيد , فهذا يحتاج الى لجنة أخرى من القضاة الكبار لكى يجدوا مخرجاً لنا وللطب الشرعى من دائرة الضغوط وهيمنة وزارة العدل التى تتبعها مصلحة الطب الشرعى كإحد قطاعاتها. كى لا يتكرر مثل هذا مستقبلا , وهذا لايغنى عن ضرورة إخضاع المتورطين من الأطباء الشرعيين فى ملف شهداء الثورة للمحاسبة الجنائية , وليس أفضل من اللحظة الثورية الحالية فرصة ذهبية كى نتخلص من كل أدوات الظلم وآلياته. ( كاتب صحفى) [email protected]