على مساحة حوالي 40 كيلو مترا مربعا تتراص صفوف من القبور فوق أرضيّة مكسوة بالعشب الأخضر بشكل هندسي أشبه بقطع الدومينو، داخل إحدى المقابر شرق مدينة غزة. المقبرة التي تحمل اسم "Gaza war cemetery" (مقبرة حرب غزة)، أو "مقبرة الإنجليز" كما يُسميها سكان قطاع غزة، تبدو وكأنّها متنزه بفعل الألوان الزاهية التي شكلتّها مختلف أنواع الأزهار والورود والعشرات من أشجار "السرو". و"تضم المقبرة 4 آلاف قبر لرفات جنود من 17 دولة، معظمهم بريطانيين، جاءوا لقتال الدولة العثمانية مع قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى (1914:1918)"، كما يقول حارس المقبرة، عصام جرادة (52 عاما)، لوكالة الأناضول. جرادة يعمل حارسا لمقبرة الإنجليز خلفا لوالده إبراهيم جرادة، الذي أدار شؤون المقبرة (منذ أن كان عمره 17 عاما) لنحو خمسين عاما حتى بلغ سن التقاعد،(65 عاما)، وكان قد تولى هو الآخر مهمة الحراسة بعد وفاة والده ربيع. ويضيف عصام جرادة : "ابني يستعد لتولي إدارة المقبرة عند وصولي إلى سن التقاعد، عائلتي تعمل منذ أكثر من تسعين عاما على حراسة وإدارة شؤون المقبرة، ونتلّقى الرواتب الشهرية من هيئة الكومنولث" البريطانية التي أسست المقبرة (هيئة أسستها الحكومة البريطانية للإشراف على مقابر الحروب). ويعمل جرادة، كحارس للمقبرة ومسؤول أول ، ويرافقه في العمل أربعة آخرون مهمتهم الاعتناء بالزهور والورود، ويتلقون جميعهم رواتبهم بشكل شهري من السفارة البريطانية في القدس (تقوم بتحويل الرواتب عبر البنوك العاملة في غزة). ولا يشعر جرادة بأي خوف من إقامته هو وعائلته (7 أبناء) في المقبرة بين رفات آلاف الجنود، إذ يقول: "على العكس تماما، فالمقبرة تشكيل لي مكانا للراحة.. أنظر إلى ما حولي من زهور وأشجار وأشعر باطمئنان كبير". ويمضي قائلا: "البعض تنتابه الدهشة لإقامتنا بين القبور والمبيت هنا، لكن المقبرة باتت على مدار الأجيال المتعاقبة بالنسبة لنا قطعة من أرواحنا.. منذ أن كنت صغيرا وأنا أشاهد أبي وهو يعتني بالنبات والزهور، واليوم ابني يراقبني ليتولى المهمة ذاتها من بعدي". ويشير جرادة بيده نحو نصب صخري على مدخل المقبرة (تقع في مدخل غزة الشمالي في حي التفاح شارع صلاح الدين)، مكتوب عليه باللغتين العربية والإنجليزية: "الأرض المقام عليها المقبرة هي هبة من أهالي فلسطين لتكون مقر الراحة الأبدية لجنود الحلفاء الذين قتلوا في حرب (1914-1918) تخليدا لذكراهم". فتاريخ المقبرة يعود إلى الحرب العالمية الاولى عندما كان الجيش البريطاني يقاتل جيش الدولة العثمانية، والتي قادت إلى فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي انتهى في 14 مايو/ أيار 1948، وهو اليوم الذي أٌعلن عن قيام دولة فلسطين على أراض فلسطينية محتلة. وعلى الكثير من شواهد القبور كُتب: "إنه معروف عند الله" "Known Unto God""، فيما كُتب على شواهد أخرى اسم الجندي وعمره وبلده ورتبته في الجيش. ومن بين الجنود، كما يشير جرادة 8 جنود يهود، إضافة إلى 12 جنديا من المسلمين. وهذه المقبرة تعد شاهدا تاريخيا على ما وصفه جرادة ب"ضراوة المعارك التي خاضها العثمانيون ضد قوات التحالف خلال الحرب العالمية الأولى". وبفضل الأشجار في المقبرة، ومن أشهرها "الجكرندا" و"البونسيانا"، صارت المقبرة بالنسبة لسكان غزة، متنزها للترفيه وتنفيس الهموم، كما يقول الحارس. وهذه الأشجار تتم العناية بها صيفا وشتاء، كي يبقى اللون الأخضر، هو السائد في المقبرة كما يؤكد جرادة. ويُضيف: "هناك زهور وشتلات مخصصة للفصلين (الشتاء والصيف)، ويتم زراعتها على مدار السنة كي تبقى المقبرة خضراء زاهية الألوان". ويأتي إلى المقبرة عشرات الزوار لالتقاط الصور بين الورود، وأكثرهم الخاطبون والمتزوجون حديثا كما يقول جرادة. ويتابع موضحا أن "المدارس تنظم رحلات للطلاب إلى المقبرة.. وكثير من الوفود الأجنبية، التي تأتي لزيارة قطاع غزة تزور المقبرة.. والعائلات البريطانية تأتي إلى هنا لرؤية قبور أبنائها، والجميع يشعرون بالراحة لجمال أشجارها وترتيب شكلها". غير أن المكان ليس مفتوحا للجميع، والمقبرة كما يقول جرادة، ليست للعب والترفيه، إذ يجب الاهتمام والعناية بها وفق تعليمات الحكومة البريطانية التي توفر كل ما يلزم لتزيين المقبرة وزراعتها بالزهور والاعتناء بها. ويستدرك: "لا يتم فتحها إلا بوجودي أو وجود العمال، فلا يمكن تحويلها لمتنزه أو حديقة عامة فللمقبرة خصوصيتها ومهمتنا الحفاظ عليها". و"خلال الحروب الثلاث التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة تعرضت بعض شواهد المقبرة والأشجار إلى التلف؛ مما دفع الحكومة البريطانية، وعلى الفور، إلى ترميم الأضرار للحفاظ على المقبرة"، بحسب حارسها. وتقول الطالبة الجامعية سها النزلي 19 عاما، لوكالة الأناضول إنها ترتاد بين الفيّنة والأخرى هي وصديقاتها المقبرة للتخلص من الأعباء النفسية، وما وصفته ب"المزاج السيء"، وهموم ما تُخلّفه الأوضاع المعيشية الصعبة "السياسية والاقتصادية" في قطاع غزة. ويثير دهشة النزلي، أن تنبت الورود الجميلة بين آلاف هذه القبور، وأن تجلس في مكان هادئ من النادر تواجده في مدينة تتميز بالحركة وضجيج السكان والمركبات. وتبلغ مساحة قطاع غزة 360 كيلو مترا مربعا، يقطن فوق هذا الشريط الساحلي الضيق، نحو 1.9 مليون نسمة، مما يجعلها أكثر المناطق في العالم اكتظاظًا بالسكان.