واقعة جديدة مثيرة تكشف عن تداعيات خطيرة للمواقف السلبية للجهاز الأمني تجاه انفلات أوضاع الجريمة في مصر خلال الأشهر الماضية ، وهو الانفلات الذي من الواضح أنه يتصاعد مع الوقت ، ومع إدراك مرتكبي تلك الجرائم أن الجهاز الأمني يتجاهل الجريمة ، ما لم تكن ذات حساسيات سياسية أو إعلامية ، وأن هناك حالة من التعايش الرسمي مع الجريمة ، وربما تساهل معها ، ولا أقول شيئا أكثر من تعبير "التساهل" . الواقعة الجديدة شهدتها منطقة "صفت اللبن" بحي بولاق الدكرور بالقاهرة ، وتمثلت في قيام المئات من المواطنين بنصب "كمين أمني" شعبي لعصابة إجرامية تخصصت في الهجوم على الشباب الصغار الذين يقودون "التوك توك" في تلك المنطقة الشعبية لتثبيتهم وسرقة التوك توك وبيعه لأحد التجار المتخصصين بربع ثمنه ، تكرار وقائع السرقة في فترات قصيرة ، وبشكل يومي ، ومع تراخي الجهات الأمنية وتجاهلها للبلاغات والوقائع ، دفع الأهالي إلى التخطيط لوقف هذا المسلسل من الجرائم الذي يتسبب في عذاب كبير لأسر فقيرة تتعيش من دخل هذا العمل الصغير ، فكان أن خططوا لإرسال "توك توك" في ساعة خلت من المارة كطعم للمجرمين ، وهو ما نجح في الإيقاع بأحدهم الذي استدعى بقية العصابة على عجل ، فجاءت لتجد مئات من المواطنين الذين ألقوا القبض عليهم وأوسعوهم ضربا وتنكيلا فقتل على أيديهم أحد اللصوص بينما قطعت يد آخر وأصيب الباقون بإصابات مختلفة ، وهنا ، هنا فقط ظهرت الشرطة وحضرت لإنقاذ اللصوص . الحادثة كشفت عن أن العصابة الجديدة ليسوا من المسجلين ، ولا من أصحاب السوابق ، وهو ما يعني أن التراخي الأمني وانسحاب وزارة الداخلية من واجبها الوطني والأخلاقي شجع قطاعات جديدة على الدخول في عالم الجريمة السهل حاليا ، ضامنين أن أحدا لن يطاردهم ، أيضا مما كشفت عنها اعترافات اللصوص أمام جهات التحقيق أنهم قاموا بخمسة عشر عملية سرقة متتالية ، سرقوا خلالها خمسة عشر مركبة "توك توك" ، ويبدو أن الجهات الأمنية كانت تنتظر حتى تصل السرقات إلى مائة وخمسين مثلا ، حتى تتحرك أو تبعث "مخبريها" أو مصادرها أو أن تعزز الأمن في تلك المنطقة . الواقعة تعيد التذكير بواقعة دسوق التي قام فيها الأهالي بحاصرة منزل زعيم للبلطجية روع الأهالي عدة أشهر على مرأى ومسمع من الجهات الأمنية وفرض إتاوات واعتداءات على الأهالي رغم أنه هارب من السجن ويفترض أنه مطارد من الجهات الأمنية ولكنه كان يقيم في بيته معززا مكرما ويمارس نشاطه الإجرامي في وضح النهار ، وكأن هناك رسالة أتته تقول له : أنت آمن ، ولا تقلق من أي مضايقات أمنية ، حتى انتهى الأمر إلى أن قام الأهالي بدور الأمن وألقوا القبض عليه وقتلوه وسحلوه . مشكلة تلك الممارسات أنها تفتقر إلى الثقافة القانونية ، كما أن محركات المواطنين الغاضبين يصعب السيطرة عليها ، وتتصف عادة بالرغبة في الانتقام والتنكيل ، وهو ما ينتهي بالواقعة إلى صورة بشعة من التمثيل باللصوص بعد قتلهم أو قبل قتلهم في مشاهد احتفالية صاخبة ، وقد استمعت وقرأت لبعض "فلاسفة" الداخلية الذين يحذرون من هذه الممارسات ويهاجمونها ويؤكدون أنها لن تنهي المشاكل بل ربما تفاقهما ، وأنا لا أفهم كيف تفاقمها ، بل قناعتي أنها رادع حقيقي ، ولكن المشكلة أنها تبقى رغم أي مبرر سلوك غير قانوني ، ولا يساعد على رسوخ فكرة القانون واحترامه في ضمير الناس وممارساتهم ، وهو تهديد حقيقي لفكرة الدولة وسيادة القانون ، ولكن السؤال الأهم هنا هو : من المسؤول عن هذه الفوضى أساسا ، ومن الذي يجعل الأهالي أمام اختيارين أحلاهما مر ، إما القبول بالاستباحة من قبل بلطجية ولصوص أطلقتهم جهات أمنية ولو بشكل سلبي ، وإمام اغتصاب سلطة القانون والدولة وممارسة الردع بأنفسهم . [email protected]