جمال سلطان لم أكن راغبا في حضور الندوة ، ولكن حصار أخي كمال حبيب لي وإصراره على حضوري لم يدع لي فرصة الفرار من وجع القلب ، كانت لقاءا للجنة سجناء الرأي بنقابة الصحفيين مع أسر المعتقلين ، كنت أحفظ ما قيل وما سوف يقال ، وأعرف كم هي موجعة للقلب تلك القصص التي تسمعها أو تراها ، ذهبت على كره مني ، واستمعت إلى خطب بعض ممثلي المنظمات الحقوقية المهتمة بشؤون السجين السياسي ، لم أكن مهتما بالكلام قدر اهتمامي برؤية وجوه البشر في القاعة ، شيوخ طاعنون في السن بين الستين والسبعين والثمانين ، من أطراف مصر ، من الصعيد الجواني ومن شمال الدلتا ومن أحياء القاهرة البعيدة ، وجوه حزينة كسيرة ، يمسك بعضهم بورقة صغيرة مكتوب فيها بيانات عن ابنه المفقود في معتقلات العهد السعيد منذ سنوات ، بعضهم غاب عنه فلذة كبده وولده الوحيد أكثر من ثلاث عشرة سنة ، بدون أي جريمة ، وبدون أي تهمة ، وبدون أي قضية أو محاكمة ، فقط الباشا قرر أن يرميه في السجن بقية عمره ، ولا معقب لأمره وتقديره ، ولا يوجد حسيب أو رقيب عليه في هذا البلد ، كما أن تكلفة قرار الاعتقال على الضابط أخف كثيرا من تكلفة قرار الإفراج ، لأنه لو ألقى بالمواطن في المعتقل طول عمره فلن يحاسبه أحد أو يحاكمه ، ولكن إذا أفرج عنه وحدثت أي مشكلة ولو صغيرة فإنه سيسأل ، وفي هذه الطاحونة الوظيفية البغيضة تضيع أعمار بشر في المعتقلات بدون أي معنى ، كنت أرى وجوه النساء العجائز وشفاهها تتمتم كلما يأتي ذكر محنة معتقل في حديث متحدث " حسينا الله ونعم الوكيل " ، " يا رب أنت على كل ظالم " ، وأعناقهن تدور في كل اتجاه لعل أحدا يأخذ الورقة التي في يدها عن مأساة ابنها ، رأيت شيخا كبيرا يقطع الصفوف ويصعد إلى المنصة ويقاطع المتكلم وهو يهمهم بكلام غير مفهوم إلا أننا أدركنا أنه يقول : ولدي ، ابحثوا لي عن ولدي ، وبصعوبة هدأه الحاضرون وأعادوه إلى مقعده ، وعندما تنادى الجمع إلى تسجيل أسماء ذويهم رأيت جلبة وتدافعا من الرجال والنساء الكبار والصغار ، ورأيت أما مسنة لا تقل بحال عن الستين وهي تحاول اختصار المسافة إلى المنصة ، فتطلب من شخص فوقها أن يمسك بيدها لكي يسحبها بدلا من أن تذهب إلى أقصى طرف القاعة حيث السلم من فرط لهفتها على تقديم ورقة فيها بيانات ولدها المعتقل ، وبالفعل وجدت ظهرها المقوس وهو يشتد التواؤه في خطورة كبيرة على من في سنها لكي تسرع بتسليم ورقة ابنها ، قابلتنا نساء شابات يشتكين من اعتقال أزواجهن من ست سنوات أو أكثر بدون أي سبب ، فلم يكونوا يوما في جماعة ولا حزب وليس لهم أي نشاط سوى أن يكون أحدهم كان صديق دراسة لآخر تم القبض عليه وكان منتميا إلى تنظيم ، وحتى تثبت أن لا صلة لك بشئ يحتاج الأمر إلى أكثر من عشر سنوات وأنت وحظك مع الضابط المختص ، كنت ألاحظ أنهن يتحدثن إلى كمال وإلي وهن في حال ذهول ، الكلام يخرج من إنسان مغيب عن المكان والزمان ، وحال إحباط شديد ، هذه المرأة الشابة التي قالت أنها من المعادي الجديدة التي لم يمض على زواجها أكثر من شهور ثم يختطف زوجها البريء طوال ست سنوات بدون أي معنى ولا جريمة ولا أحد يسمع لها ويتلاعب ضباط الفرع التابعون له بأعصابهن وأمور أخرى يندى لها الجبين ، كنت أرى صبية صغيرة في حدود العاشرة من عمرها تقفز بخفة بين الحضور تتسلم أوراقا وتسرع بتسليمها إلى من بالمنصة ، كانت تقفز بخفة وكأنها في احتفال ، لا تدرك أنه أشبه بصوان عزاء في أبيها ، هي لا تدرك شيئا لأنها ربما لم تشعر أساسا بمعنى الأبوة ، حيث اعتقل أبوها وهي ما زالت في فترة الرضاعة ، ثم لم تعرف عن هذا الإنسان شيئا سوى دقائق تراه فيها كل أسبوعين في الزيارة المقررة ، وكثيرا ما تكون من وراء أسلاك عازلة ، هي لا تدرك ، ولكني أعرف أن أباها الذي يسكن هناك في زنزانة موحشة يدرك ، ويتمزق قلبه كل ليلة عندما تهيمن على خاطره صورتها بخفتها وحيويتها ، وأعرف كيف تملأ الدموع عينيه عندما يجن عليه الليل وهو يتوجع من الحرمان من احتضانها والإحساس بدفء الأبوة ، مصر تعيش مأساة إنسانية طوال عصر مبارك مع الأسف اسمها " المعتقلون " ، مأساة يخجل أي نظام سياسي وأية حكومة من عارها ، لو علم العالم ما يدور ويجري في السجون ، مأساة أكثر من خمسة عشر ألف معتقل باقين حتى الآن ، وأضعافهم من أسرهم التي تتعذب كل يوم معهم ، آباء وأمهات وزوجات وأبناء ، آن الأوان أن يجد رئيس الدولة من وقته لحظات للنظر في ملفهم كما يجد وقتا في متابعة استعدادات مباريات الكرة وكما يطمئن على صحة ممثل ألمت به نزلة برد ، هؤلاء الآلاف المعذبون أيضا مواطنوك يا سيدي ، وهؤلاء رعاياك الذين تسأل عنهم في الدنيا ، وعند الملك الديان . [email protected]