لا أريد أن أخوض مع الخائضين في صراع حقيقي أو متوهم بين ما يُسمّى بالإسلاميين والعلمانيين (وأنا لا أستخدم الكلمة من باب التنابذ بالألقاب) إنما أحسب أن المرحلة الفاصلة في تاريخ مصر التي نمر بها كثيرا ما تفرض منطق الاستقطاب وتضيع معالم رؤية التيار الرئيسي الذي لا يقصي أحدًا ولا يستبعد أحدًا ولا يتهم أحدًا بالعمالة ولا بالتخوين. أولا: لا يزايد أحد على وطنية المؤسسة العسكرية وهذا ما أكدناه مرارا وتكرارا؛ لكن توجيه أي نقد سياسي لاختيارات المجلس العسكري ليس معناه نقد مؤسسة الجيش؛ فلابد من وضع مسافة بينهما؛ وأن تُحترم هذه المسافة من قِبَل كل الأطراف. ثانيا: لا أحد ينكر دور الجيش المصري في الاعتراف بشرعية مطالب الثورة ابتداء ثم الانحياز لها وحمايتها انتهاء، وهو موقف بطولي يسجل في تاريخ العسكرية المصرية المشرّف؛ إذ أثبت أنه جيش الوطن وليس جيش الحزب الوطني. ثالثا: إن إدراك الواقع المصري منذ تنحي مبارك وإمساك المجلس العسكري بمقاليد الأمور يثبت أن الدور السياسي الذي قام به المجلس العسكري لم يكن في جميع أحواله محل إجماع وطني؛ وأنه كثيرا من اتخذ قرارات صادفت رفضا شعبيًا كبيرًا مرورا بما مارسته شرطته العسكرية من عنف أحيانا ضد المتظاهرين إتكاءً على ما له من رصيد عند الشعب يسمح بالتجاوز. رابعا: لكن استمرار سيل التجاوزات سواء ممثلة فيما فرضه على د. عصام شرف من أشخاص (نموذج يحي الجمل المرفوض شعبيا) أو سياسات أو اختيارات مجتمعية جعل رصيده "أوشك على النفاذ" كما يقول صديقنا الأستاذ أشرف حُزَيِّن على الفيس بوك؛ أو يحتاج إلى إعادة شحن كما يقول صديقنا الصحفي الأستاذ قطب العربي. خامسا: ولا شك أن استمرار المجلس العسكري في تلك السياسات المرفوضة شعبيا وسياسيا ربما أفقده رصيده أو أدخله في مستويات أولى من السحب على المكشوف، ولا نحب طبعا أن تتكرر ظاهرة هتاف المتظاهرين ضد المشير طنطاوي أو غيره من قادة وأبطال المؤسسة العسكرية. سادسا: إن تفرقة واجبة بين إساءة الأدب لرموز المجلس العسكري وبين النقد السياسي المباح؛ وبينما نحن ضد الأولى على طول الخط فإننا مع الثانية بلا تحفظ؛ ومن يريد أن يلعب دورا سياسيا هو المطالب بالتحمل وسعة الصدر ولا ينبغي أن يتعامل مع الشعب وخاصة الشباب باعتبارهم مجندين وعليهم إطاعة الأوامر العسكرية ولو خالفت توجهاتهم الفكرية، فالدولة ليست معسكرا ولا نحن في حالة حرب. سابعا: واضح من دراسة عميقة لمرحلة الشهور الست الماضية أن المجلس العسكري رغم أنه ليس مجرد طرفا سياسيا فاعلا إنما حاكما للدولة (بيده أغلب مقاليد الأمور) كثيرا ما يحتاج إلى مُحَلِّل، ولعن الله المُحَلِّل والمحلَّل له لأنه ليس إلا ستارا يختفي وراءه اللاعب الأساسي، حتى يظهر الكومبارس وهو يعيش دور البطولة وهو لا يعلم أن اللعبة انتهت. في هذه الشهور الست تغيرت كثيرا شبكات التحالف والاصطفاف بين الأطراف والفاعلين السياسيين في مصر وتغيرت شبكة الرهانات السياسية؛ إنما الثابت فيها أن المجلس العسكري كان يلاعب الكل ويستخدم الكل (إسلاميين وعلمانيين ومستقلين) ويهدد الغالبية كثيرا ويحاول أن يرسم مستقبلا للبلد مفصلا على مقاسه؛ تكون به المؤسسة العسكرية حَكَمَا على مجمل العملية السياسية؛ وضامنا لقواعدها وهو ما يشكل خروجا بالمؤسسة العسكرية عن دورها الوطني في حماية الحدود والزج بها في أتون الصراع السياسي. ثامنا: تشي قراءة عميقة لتداعيات الشهور الست الماضية بأن: المؤسسة العسكرية تريد أن تكون: "حَكَمَا وليس حَاكِما" وهو ما يعيدنا إلى النموذج التركي قبل عشر سنوات (قبل مجيء رجب أردوغان) حينما كانت المؤسسة العسكرية التركية تنقلب على أي انتخابات تشريعية لا ترضى عن نتيجتها بحجة حماية النظام العلماني الكمالي في تركيا ويكون الانقلاب دستوريا لأن الدستور ينص على أن وظيفة المؤسسة العسكرية حماية العلمانية الأتاتوركية، وكان العلمانيون هم المُحَلِّل الملعون في عملية اغتصاب الإرادة الشعبية؛ والذين يضفون غلالة من الشرعية على الانقلاب لسيطرتهم على قطاعات واسعة ومؤثرة في الرأي العام التركي كالإعلام والتعليم والقضاء؛ والذين يروجون زورا أنهم دعاة الدولة المدنية (وهنا نجد التشابه كبير بين الحالتين التركية والمصرية). تاسعا: على المجلس العسكري أن يعيد النظر في فهم حدود دوره في السياسة المصرية ويدرك أبعاد وحجم التغيير الذي طرأ على التكوين النفسي المصري بعد ثورة يناير؛ وأنه ليس مقبولا من المؤسسة العسكرية أن تكون حَكَمَا ولا حَاكِما؛ إنما مؤسسة مصرية تحمي التراب والحدود وتحافظ على كيان الدولة من كل اعتداء وساعتها كل شباب الثورة هم جنودها وأفرادها؛ وساعتها يؤمرونا فنطيع إذا كانت الدولة في حالة الحرب، شريطة ألا يخلقوها. عاشرا: إن كل ما يحدث من جدل في مصر خلال الشهور الست الماضية منذ تنحي مبارك هو في جوهره صراع على مستقبل مصر ودور المؤسسة العسكرية وحدوده (حاكِم أم حَكَم) ومن تكون له الغلبة في لجنة إعداد الدستور، والرقعة التي يتحرك فيها الإسلاميون والعلمانيون؛ باختصار من يعيد تشكيل البلد ويتحكم في مسارات مستقبلها. وفي هذا الصراع لا يمانع أغلب الأطراف من التحالف حتى مع الشيطان في سبيل غلبة سياسية (ولو على حساب غالبية الشعب) الذي تراه بعض الأطراف (إسلاميين وعلمانيين) قاصرا وتحاول أن تمارس وصاية مفتعلة عليه. وللأسف كثير من الإسلاميين لهم تاريخ عريق في الاستغفال من قبل العسكر، وكثير منهم هواة سياسة ومحدثوها؛ والعلمانيون أكثرهم حواة يلعبون بالبيضة والحجر. وكل يراهن على العسكر في سبيل إنجاح مشروعه الأيديولوجي؛ والعسكر (بمهارة معهودة) يلاعبون الجميع ويستخدمون الجميع في سبيل العودة بنا للنموذج التركي قبل أردوغان.