كان الاستقطاب السياسي الحاد أسوأ نتائج عصر مبارك، وقبل ثورة يناير بأقل من شهرين كتبت مقالا بعنوان: "مصر واستحكام سياسة الاستقطاب" قلت فيه: "إن مصر (الدولة والوطن) تعيش أزهى عصور الاستقطاب على كل المستويات: نظام ومجتمع، حكومة ومعارضة، مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وعلمانيين، رأسماليين جدد وشعب كادح. استقطاب حاد بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية على كل الصُعُد". وها قد أذن الله لشمس الحرية أن تشرق على هذا البلد الطيب أهله، وسقط مبارك ونظام حكمه إلى غير رجعة، وإن كانت لا تزال بقايا نظامه تشعل الحرائق سواء في الإعلام بنشر الفزع في المجتمع، وخلق حالة من حالات الاضطراب الدائم، أو باستغلال سيء لما في المجتمع من مظاهر انقسام طبيعي ومحاولة إشعال الحرائق الطائفية والعمل على تغذية سيل المطالب الفئوية). ورغم مرور أكثر من ثلاثة شهور على زوال نظام مبارك إلا أن الاستقطاب السياسي الحاد لا زال يقسم البلد قسمين، فما من قضية ولا موقف إلا وتجد الانقسام الرأسي قد شرخ المجتمع من أعلاه إلى أسفله بصرف النظر عن نسب كل شق، وبصرف النظر عما يمثله كل شق من أفكار. وجوهر عملية الاستقطاب هو حشد طاقات الأفراد وتعبئتها بطريقة منظمة لدعم وتنفيذ برنامج سياسي محدد "رؤية واحدة" لذا فالاستقطاب لا يسمح بالتعدد ولا بالتنوع ولا يقبل باختلاف وجهات النظر لأنه ينطلق من طهرانية الذات وقداستها وخطأ الغير وانحرافه. وإذا كان الاستقطاب لا يقود تلقائيا إلى اندلاع حرب أهلية إلا أنه "يخلق جميع الشروط السياسية والنفسية التي تخلّد النزاع وتجعله قابلا للاشتعال في أي لحظة" كما يقول المفكر برهان غليون. ظلل الخلاف (ولا زال) كل المراحل التي مرت بها مصر على مدار الشهور القليلة الماضية، بداية من ترتيب المراحل والإجراءات الواجب ابتاعها حتى تخرج مصر من المرحلة الانتقالية: مجلس رئاسي أم انتخابات برلمانية أم دستور: أيها أولا، مرورا بمعركة الاستفتاء وما شابها من انقسام حاد بين التيارات السياسية والفكرية حيث تم التعامل معها من قِبَل مختلف الأطراف باعتبارها معركة فاصلة تحسم لمن الغلبة في تشكيل هوية المجتمع. وأخيرا كانت جمعة 27 مايو بين من سماها جمعة الغضب الثانية أو الثورة الثانية، ومن جعلها جمعة خراب مصر ومحاولات إحداث الوقيعة بين الشعب والجيش، وربما كان المجلس العسكري بتفهمه لحالة الحراك التي يعيشها المجتمع وعمق تنازع التيارات الفكرية المتصارعة على مشروع المجتمع وهوية الدولة هو أزكى الفاعلين السياسيين بتمريره الأمر وعدم الدخول في معارك فاشلة تستنزف فيها شرعيته وإجماع الشعب عليه أكثر مما يستنزف جهده وطاقته. إن المنطق السائد في مصر الآن هو منطق الاصطفاف السياسي والتصنيف على الهوية الفكرية والسياسية، وهو منطق أثبت فشله في كثير من المجتمعات، لأنه دائما ما يخيرنا بين بديلين لا ثالث لهما، ودائما ما يفرض علينا منهج الفسطاطين: (فسطاط الحق وفسطاط الباطل)، ودائما ما يضعنا في إطار قانون بوش: (من ليس معنا فهو ضدنا). وهو دائما يصيغ البدائل بصورة حدية بالغة الانقسام. وللأسف فرغم كل صخب الاستقطاب السياسي الحاصل بعد ثورة يناير نرى أنه استقطاب لا تحكمه القناعات العقلية الراسخة أو البرامج الفكرية المحددة بقدر ما يحكمه نظام الولاءات السياسية أو منطق (جماعات الشلل والمصالح) ولذلك فأنت تستطيع أن تعرف مكونات الاصطفاف السياسي من كل قضية حتى قبل أن يعرض كل طرف حججه ومستنداته الفكرية. مصر بعد ثورة يناير تختلف عن مصر في عهد مبارك، مصر الثورة فتحت أبوابها على مصراعيها أمام كل المشاريع الفكرية وأمام كل من يملك رؤية وقدرة على الحشد والتعبئة والتنظيم وهي حالة بقدر ما تعبر عن انفتاح المجال السياسي بقدر ما تشكّل خطرا على الكيان المجتمعي إذا ما لم تضبط "البوصلة الوطنية" للمشروع الذي لديه قدرات هائلة على الحشد والتعبئة والتنظيم. مصر بعد ثورة يناير تريد برنامج عمل ينهي حالة الانقسام والاستقطاب الحاد ضمن خيارات متعددة وبدائل لا تقصي أحدا ولا تستبعد أحدا، فقد كرهنا عهد الاقصاء والاستبعاد، وكفانا عصر من الاقصاء والاستبعاد ترك البلد خرابا يبابا تنعي من نهبها وسرقها وهرّب أموالها وترك خزائنها خاوية على عروشها. مصر بعد ثورة يناير تريد نظام اجتماعي وسياسي مفتوح لا يحجر على أحد ولا يصنف الناس بين مع وضد، أو وطنين وخونة. مصر بعد ثورة يناير تريد "طوق نجاة" هو سفينة نوح تحمل من الأطياف ما يمور به المجتمع المصري من مناهج ووجهات النظر، ولا عاصم لنا من أمر الله لو ساد فينا: منهج الفسطاطين أو قانون بوش. إن تجارب المجتمعات والدول غيرنا علمتنا أنه في "نظام الاستقطاب" الكل خاسر على المستوى الإستراتيجي، حتى من يفوز في المعارك الصغيرة، قد يحقق طرف مزيدا من الغلبة السياسية، وقد يحقق نوعا من النصر الزائف بإقصاء المخالفين لكن على المدى البعيد من يقصي يراهن على غياب الآخر، ومن يراهن على غياب الآخر يعمل كل الآخرين على إلغاءه وليس غيابه، ومن هنا يخسر الجميع. إن مصر بعد ثورة يناير ظمئى لمبادرات جبهوية تجمع أكثر مما تفرّق، تحشد الناس وتجمعهم على ما يسمى: "إستراتيجيات الحد الأدنى" وعلى المتفق عليه وعلى كل ما يشكل قوام حافظ للمجتمع، وإذا فقدت أي جماعة سياسية قدرتها على التوصل إلى حد أدنى يمثل القواسم المشتركة زالت بنيتها الوطنية. وأحسب أن فكرة "التيار الرئيسي" هي محاولة جيدة للخروج من حالة الاستقطاب لكنها بحاجة إلى جهود جبارة حتى تتحول من عالم الأفكار والمثال إلى واقع: يتحرك على الأرض، ويشكل الحالة السياسية، ويخلق تيار موازيا يشكل الجسد الرئيس للقضايا محل الاتفاق أو الإجماع العام أو الوحدة الفكرية في المجتمع، ويكفي الله بها المصريين شر القتال الطائفي والسياسي. ولكي تتجاوز مصر حالة السيولة والتآكل لابد من "ممر آمن" تعبر من خلاله المرحلة الانتقالية، ممر آمن يشكل محاولة جادة لوضع "معالم الطريق" إلى نهضة مصر الحديثة. وربما كان تكوين "مجلس استشاري" يعبر عن كل ألوان الطيف المصري يمكن أن يخفف من حالة الاستقطاب التي تعيشها البلد، ويقوم هذا المجلس بمهمتين أساسيتين: الأولى: مأسسة عملية الاستشارة التي يقوم بها المجلس العسكري عند كل قضية. الثانية: "خزّان تفكير" إستراتيجي للمجلس العسكري يقوم بصناعة البدائل والخيارات وترشيد عملية اتخاذ القرار. وكلا الأمرين يحتاج إلى مزيد تفصيل ومزيد بيان. والله من وراء القصد.