كان من أسوأ ثمار الحراك الشعبي الذي بدأ مع ثورة 25 يناير في بر المحروسة هو بروز الاستقطاب الفكري والسياسي بشكل فج أوصلنا إلى درجة من درجات المكارثية غير مسبوقة في مصر. الاستقطاب عرفناه وعرفنا سنينه، وكتبنا وكتب غيرنا كثيرا عنه، وعرفنا كيف يشق الأسرة الواحدة نصفين، لا أقول العائلة الكبيرة، أو جماعة الأصحاب، أو معرفة السنين الطويلة، إنما أقول الأسرة الواحدة، في تطبيق عملي لسياسة بوش: من ليس معنا فهو مع الإرهاب، وفي ممارسة عملية لتصورات بن لادن عن العالم وأنه ينقسم إلى فسطاطين: فسطاط الحق وفسطاط الباطل، ومن لم يكن في فسطاط الحق فهو حتما في فسطاط الباطل، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. أما المكارثية فهي نسبة إلى جوزيف مكارثي ذلك النائب الجمهوري بالكونغرس الأمريكي في الفترة ما بين عامي 1947 و1957. حيث استطاع مكارثي توظيف "خوف" الأمريكان من انتشار الشيوعية في فترة بلغت التوترات الدولية فيها أوجها في نشر عمليات ممنهجة من الإقصاء والإدانة والتشهير بكل من لم يكن متوافقا معه في خطه السياسي والفكري، وفي هذا الإطار ادعى مكارثي -دون دليل- أن هناك عددا كبيرا من الشيوعيين والجواسيس السوفييت والمتعاطفين معهم داخل الحكومة الفيدرالية الأمريكية. ومن ساعتها ذاع مصطلح المكارثية، وأصبح تعبيرا عن الإرهاب الثقافي الموجه للمعارضين والخصوم السياسيين. ورغم أن "حملة الخوف أو التخويف" من الخطر الشيوعي التي قادها مكارثي لم تستمر سوى خمس سنين (1950- 1955) إلا أن آثارها ظلت حاضرة في المشهد الأمريكي أطول كثيرا من تلك الفترة حتى المكارثية دفعت عشرات المثقفين والمفكرين الأمريكيين إلى الانزواء بعيدا عن خطر مواجهة القمع، والسلطات الأمنية وعمليات التشهير التي طالت رموز فكرية وقامات سياسية كبيرة. لم تفرق حملة مكارثي بين الاتحاد السوفيتي وأفكاره الشيوعية، وبين النقابيين الأمريكان الذين كانوا يطالبون بالإصلاح وتحسين ظروف العمل في أمريكا، وتقليل الفوارق الطبقية والاجتماعية. وكان أكثر أسلحة مكارثي فعالية في بث حالة الخوف في المجتمع الأمريكي هو التهويل والتحريض على كل المعارضين السياسيين لحزبه الجمهوري باعتبارهم جواسيس وعملاء للاتحاد السوفيتي. لقد أخاف مكارثي الأمريكان خوفا حقيقيا جعل هدف كل فرد منهم هو نفي تهمة العمالة للاتحاد السوفيتي أو حتى الشيوعية عن نفسه، فضلا أن يدافع عن غيره أو يطالب بحقوق إنسان أو تحسين أوضاع معيشية. بعد التهويل والتحريض تأتي الخطوة الثانية وهي "شيطنة الخصوم" عبر عمليات إعلامية وتسويقية ممنهجة يتحول فيها الخصوم إلى حالة أسطورية تتهدد كيان المجتمع وتنذر بزوال الدولة، والإيغال في مصطلحات مثل: إسقاط الدولة، والحروب الخفية من الأجيال المختلفة مثل الجيل الرابع أو حتى الخامس (لن يحسب أحد ورائهم) والعمل على انقسام الجيش وضرب المثل بسوريا والعراق (حتى لا نكون مثلهم). ثم الخطوة الثالثة بعد التهويل وشيطنة الخصوم في عمليات ممنهجة من التعميم الظالم الذي لا يفرق بين مستويات الظاهرة، وبين من هو جزء هيكلي من الظاهرة محل الهجوم، ومن هو يدافع عن مطلق الحق في الوجود لكل المختلفين فكريا وسياسيا، وعمليات التعميم الظالم هذه يخدّم عليها خطاب إعلامي مكثف يشتغل بالليل والنهار على مخيلات الجماهير وعلى بناء تصوراتهم الذهنية للأحداث محل الجدل، ويرسم رؤيتهم لها ويحدد لهم ملامح كل حدث في إطار من الحرب الإعلامية الخفية والظاهرة، ليصل الإعلام هنا في جوهره إلى عمليات جوبلزية شعارها: اكذب ثم اكذب، وتنتظر برامج التوك شو جميعها مقدمين ومعدين وأطقم عاملة توجيهات أباها الذي في المخابرات فما هي إلا أذرع إعلامية، هكذا قال صاحبها. وحتى إذا ثبت كذب ما تم نشره على نطاق واسع فليس لدينا من يعتذر، وليس لدى إعلام جوبلز أساسا ما يسمى ثقافة الاعتذار. الخطوة الرابعة هي رفع يد الدولة القانونية وتنحية القانون جانبا، بل إنه يتم النظر للقانون في هذا الإطار على أنه معوق للقضاء على هذا الكيان المخيف الذي يودي بالدولة والمجتمع. الخلاصة: المكارثية هي تلك الحالة السياسية التي تستهدف: اغتيال الخصوم السياسيين معنويا أو حتى ماديا. عبر اتهامهم بتهم تطعن في شرفهم ووطنيتهم وصدق انتمائهم. وثم إيجاد المبررات والمسوغات للتنكيل بهم، وإقصائهم من كل أوجه الحياة السياسية. للعلم: انتهت سريعا حياة جوزيف مكارثي السياسية، وكان انحرافه في الاستجواب وتجاوزه حقوق الشهود المنصوص عليها دستورياً، وانتقامه من خصومه السياسيين، عاملا أساسيا في رفع الغطاء عنه، وطرد عام 1954 ليموت في 1957 ويبقى اسمه كأحد أشهر الأسماء لكن أكثرها إثارة للازدراء في الولاياتالمتحدةالأمريكية والعالم.