وصف الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية، د. محمد أبو رمان، النموذج الأردني في إدارة العلاقة بين الدين والدولة بالطابع العلماني المحافظ. ورأى أبو رمان في دراسته الجديدة "العلمانية المحافظة: النموذج الأردني في إدارة العلاقة بين الدين والدولة"، الصادرة باللغتين العربية والانجليزية عن مؤسسة فريدريش أيبرت في عمان بأنّ الأردن حقق منذ نشأة الإمارة (أي قرابة تسعين عاماً) توازناً مستقراً، ثابتاً، لم يتغير، في العلاقة بين الدولة والدين، وفي صيغة تقوم على تجنب الارتباط الشديد والصدام المباشر في آنٍ معاً، بقدر ما تحافظ على "معادلة" دقيقة من التداخل في مجالات معينة والانفصال في مجالات أخرى. وكشف الباحث أن الدولة الأردنية لم تبنِ شرعيتها على "أيديولوجيا" دينية بحتة، ولم تتخذ القانون الإسلامي مصدراً وحيداً للتشريعات، ولم تخضع في سياساتها الداخلية والخارجية للقيود الدينية، كما هي حال كل من السعودية وإيران. إلاّ أنّها في المقابل لم تؤسس شرعيتها على طابع علماني ثوري، يستبطن روحاً صدامية مع الاتجاهات المحافظة والدينية، كما هي الحال في الدول العربية الثورية والقومية، التي ذهب بعضها إلى اتجاه ثوري من التيار المحافظ وتشجيع الأيديولوجيات العلمانية، كما هي حال اليمن الجنوبي سابقاً والنظام التونسي حالياً، فيما دخلت بعض النظم العلمانية في حرب دموية وسياسية شرسة مع الحركات الإسلامية، كما هي الحال في النظام البعثي في سورية والعراق (سابقاً) وأبان المرحلة الناصرية المصرية. وبرغم تشابه سمات النظام الأردني مع النظام المغربي، بالطبيعة الملكية والوراثية والنيابية، وأخيراً الانتساب إلى سلالة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، إلاّ أنّ النظام الأردني بدا أكثر حذراً في الالتصاق بأي أوصاف دينية، كما هي حال الملك المغربي الملقب ب"أمير المؤمنين"، فالحكام الهاشميون المتعاقبون حرصوا منذ البداية على اتخاذ صيغة "علمانية حديثة" للدولة، تقوم على الملكية النيابية، ونزع أي التباس بهذا التوصيف. مع ذلك لم تتخلَّ الدولة عن مراعاة البعد الديني في سياساتها الداخلية بصورة مباشرة، والخارجية بدرجة أقل، والالتزام باحترام المشاعر الدينية لدى المجتمع، مع قدر كبير من الحرية الشخصية والتسامح الديني بين الديانات والمذاهب الإسلامية المختلفة، وهو ما انعكس على طبيعة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين (الذين يشكلون أقلية في الأردن) وأيضاً في العلاقة مع المكونات الإسلامية الأخرى (الشركس والشيشان والأكراد..). ووصل أبو رمان إلى أنّ هذه التوازنات "تمُوضع" الأردن ضمن تصنيف أقرب إلى "العلمانية المحافظة".. فهي دولة ذات طابع علماني بمؤسساتها السياسية وسياساتها الداخلية والخارجية، لكنها لا تصطدم بالدين وتراعي أحكامه في تشريعات وسياسات متعددة، ولا تتبنى أيديولوجيا دينية معينة (الوهابية في السعودية، الجعفرية في إيران)، بل تقف على الأغلب على "الحياد" من الصراعات الدينية والفقهية الداخلية. في الدستور والتشريعات والسياسات نقاط التوازن الأردنية (هذه) انعكست أيضاً على علاقة الدولة بالحركات الإسلامية المختلفة، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين". فبالرغم أنّ الأردن قدم نموذجاً خاصّاً سبّاقاً بين الدول العربية في العلاقة مع الإسلاميين، عندما سمح لهم بالتسجيل والنشاط، ومكّنهم من الامتداد والتأثير، على خلاف ما تواجهه هذه الحركات في كثير من الدول العربية من منع واضطهاد واعتقالات ومواجهات دموية. إلاّ أنّ مواقفه السياسية بقيت على مسافة فاصلة واضحة، وأحياناً صدام فكري، مع هذه الحركات التي تدعو إلى إقامة "أنظمة إسلامية". دستورياً؛ لا يوجد في مواد الدستور أي مناطق رمادية أو ملتبسة تدفع إلى تغليب الصفة الدينية للدولة على حساب النظام السياسي المدني، ولا إلى موقف عدائي من الإسلام والتشريعات الخاصة به، إذ تحيل المادة (1.5) للمحاكم الشرعية وحدها حق القضاء في الشؤون المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسلمين وأمور الدية والأوقاف الإسلامية. فيما تنص المادة (106) أنّ المحاكم الشرعية تطبق في قضائها أحكام الشرع الحنيف. في المقابل، تم الفصل التام بين الشأن الديني والمدني من خلال القضاء بتقسيم المحاكم إلى شرعية ونظامية، وخضوع الشرعية لقانون الأحوال الشخصية، فقد جاء في المادة (50) من القانون الأساسي لشرق الأردن المعلن في 16/4/1928م "للمحاكم الشرعية وحدها حق القضاء في الأمور الشخصية للمسلمين بمقتضى نصوص قرار أصول المحاكمات الشرعية المؤرخ في 25/10/1333ه (وهو قانون عثماني صدر عام 1914م) معدلاً بأي قانون أو أية أنظمة أو أي قانون مؤقت، ولها وحدها حق القضاء في المواد المختلفة بإنشاء أي وقف أو مصلحة للمسلمين لدى محكمة شرعية وفي الإدارة الداخلية لأي وقف" تكرّست سمة "العلمانية المحافظة" مع عهد الملك حسين بن طلال (1953-1999) خلال الأربعة عقود، التي شكّلت المحطات الرئيسة في بناء مؤسسات الدولة واستقرارها. إلاّ أنّ مقتضيات العمران والتطور الاجتماعي وانتشار التيارات الفكرية والسياسية العلمانية داخل المجتمع، كل ذلك أدّى إلى حالة من "التعايش" والازدواجية بين المظاهر التغريبية والمظاهر الإسلامية المختلفة في المجتمع، ولم يحدث صدام حاد، كما وقع في مجتمعات أخرى. مع ذلك، فإنّ الدولة انحازت بصورة واضحة، سياسياً، منذ بداية الملك الراحل إلى التيارات المحافظة في مواجهة التيارات العلمانية المتطرفة، وعقدت ما يشبه "الصفقة السياسية" مع جماعة الإخوان المسلمين للتأكيد على شرعية الدولة في مواجهة الخطاب الذي يشكك بها ويتهمها بالتبعية للغرب. مع ذلك الاحترام الواضح للشعائر والمشاعر الدينية، فإنّ سياسة الدولة حافظت على مسافة واضحة من خطابات الجماعات الإسلامية وأيديولوجياتها أو من الانخراط في سياسات تخضع للاعتبارات الدينية في تحديد المصالح السياسية، كما يراها مطبخ القرار. في المقابل، فإنّ الوزارات والمؤسسات تصدر تعليمات وأنظمة تؤكد جميعها على احترام المشاعر الإسلامية وعدم الإضرار أو الاستخفاف بها، كما يحدث في شهر رمضان عندما تغلق الأندية الليلية، ويحظر بيع الكحول والمشروبات الروحية في نهار رمضان. سياسة "الحياد الديني" في الاختلافات العقائدية والفكرية دينياً؛ وقفت مؤسسات الدولة على "الحياد"، فلم تسعَ إلى فرض المظاهر الإسلامية على المجتمع، وفي الوقت نفسه لم تروّج بصورة واضحة للتغريب، ولم تنعكس أيٌّ من الأزمات السياسية والصراعات الداخلية والإقليمية على هذه السياسة الثابتة للدولة على مرّ العقود السابقة. "الحياد الديني" للدولة انعكس، أيضاً، على إدارة ملف السياسات الدينية عموماً، فلم تسعَ الدولة إلى التبشير بمذهب معين أو الحث عليه، ولم تتبنّ موقفاً بصورة مباشرة لا سياسياً ولا ثقافياً، بين التوجهات الإسلامية الداخلية، التي وصلت في مراحل معينة إلى صراعات وصدامات شديدة، بخاصة بين الاتجاه الصوفي التقليدي، الذي كان يسود في الأوساط الاجتماعية، والاتجاه السلفي الذي بدأ يتزايد حضوره منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي. تلك السياسة الثابتة، كانت في "الحقل الديني" فقط، لكن القاعدة التي حكمت الدولة في المعادلة السياسية والأمنية كانت واضحة، وتتمثل في استخدام أو توظيف واحتواء التيارات الدينية والإسلامية أو معاداة التيارات الأخرى، بحسب طبيعة اللحظة السياسية والاعتبارات الأمنية. تجاه الإسلاميين: غلبة الأمني والسياسي وبعد أن استعرض جملة من المؤشرات والتطورات في علاقة الدولة بالحركات والتجمعات الدينية والإسلامية، خلص أبو رمان إلى أنّ سياسة الدولة تجاه الإسلاميين، عموماً، تخضع إلى اعتبارات سياسية وأمنية بحتة، ولا تمس الأبعاد الدينية والفقهية لهذه الجماعات إلاّ في حدود ألا تؤدي هذه الأبعاد لمشكلات أمنية أو توترات اجتماعية، إذ تحرص المؤسسات الدينية على عدم الاصطدام مع المزاج الشعبي العام، وعدم إثارته بدعم حركات تتبنّى أراءً دينيةً جدلية أو خلافية. في الوقت نفسه، فإنّ هنالك "حذراً استراتيجياً" تجاه هذه الحركات عموماً، حتى تلك التي تعمل - - مرحلياً- ضمن دائرة السياسات الرسمية ومصالح الدولة، ذلك أنّ جميع هذه الحركات، وإن اختلفت تكتيكياً، فإنّها استراتيجياً تتفق على "حلم إقامة دولة إسلامية"، وتغيير هيكلية النظام السياسي ومؤسساته وإحداث تحول اجتماعي كبير، وهو ما يمثّل في نهاية اليوم عملاً مستمراً على "تغيير النظام السياسي والدستور والأوضاع السياسية القائمة". بين "مطبخين" للسياسات الدينية وفقاً للدراسة، فإنّ هنالك مطبخين يتقاسمان رسم السياسات الدينية. الأول هو المطبخ الأمني وهو يهتم بصورة أساسية بالجانب الأمني في علاقته بالمؤسسات الدينية، كالأوقاف وكليات الشريعة والعمل الخيري التطوعي، ذي الجذور الإسلامية. هذا المطبخ يغلّب اعتبارات الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي، والتأكد في إدارة هذه المؤسسات أنّها لا تخرج على خط السياسات الرسمية، كما هي الحال في المساجد، إذ توجد حلقة اتصال دائمة، فيما يتعلّق بخطب الجمعة والدروس الوعظية ودور القرآن الكريم. في المقابل، برز منذ التسعينات مطبخ آخر مرتبط بالديوان الملكي، عبر المستشار الديني للملك، أو الذي يتولّى إدارة الشؤون الدينية، وقد تجلى ذلك سابقاً من خلال شخصية الأمير الحسن بن طلال، الذي ساهم في تأسيس والإشراف على مؤسسة آل البيت (تأسست في العام 1980)، وكذلك الأمر المعهد الملكي للدراسات الدينية (تأسس في العام 1994، وكان له دور في تأسيس جامعة آل البيت (1994). وكان واضحاً أنّ توجه الأمير حسن، من خلال الندوات والمحاضرات واللقاءات التي شارك فيها أو تمت تحت رعايته، إلى بناء رسالة الدولة الدينية باتجاه الحوار الإسلامي- الإسلامي، وحوار الحضارات والثقافات، والعلاقات المنفتحة مع العالم الغربي، وقضايا الأنسنة والعدالة والقانون. جامعة آل البيت تميّزت على الجامعات الأردنية الأخرى بتدريس المذاهب الإسلامية جمعاء (السنية الأربعة) والاثني عشرية والزيدية والإباضية، وفتحت الأبواب لطلاب من العالم العربي والإسلامي والغرب، وعملت على إقامة مراكز دراسات متعددة لتعزيز الحوار الثقافي والتعايش الديني والحضاري، فضلاً عن الجمع بين الشريعة والقانون في كلية واحدة. وتذكر مصادر من شيعة الأردن أنّ الأمير الحسن عمل (في منتصف التسعينيات) على مد جسور الوصل والاتصال مع مؤسسات شيعية عالمية (مؤسسة الخوئي في لندن) وكان هنالك ترتيبات لتأسيس جمعية أردنية للحوار السني- الشيعي تحت مسمّى "جمعية أبي ذر الغفاري"، إلاّ أنّ الأجهزة الأمنية لم ترحّب بالفكرة، التي لم تر النور. في عهد الملك عبد الله الثاني بدأ الأمير غازي بن محمد يتولى الأمور الدينية في الديوان الملكي، وعهد إليه تسلم مسؤوليات مؤسسة آل البيت (منذ العام 2001، وقد أقر قانونها الدائم في العام 2007)، وكان رئيساً لمجلس أمناء جامعة البلقاء التطبيقية، التي كانت تضم كلية الدعوة وأصول الدين، ثم رئيس مجلس أمناء الجامعة الإسلامية العالمية (تأسست في العام 2008)، تدرس تخصصات علمية مختلفة بالإضافة إلى الشريعة الإسلامية، وتتخذ طابعاً إسلامياً في أنظمتها الإدارية والداخلية ويرأسها أستاذ في الشريعة الإسلامية، وتضم عدداً كبيراً من الطلاب من خارج البلاد. كما هي حال الأمير الحسن، اهتمّ الأمير غازي بالجانب المعرفي والأكاديمي وبقضايا الحوار الديني والتعايش، وإن كان الأمير غازي تغلب عليه نزعة التدين الصوفية، وله عدة مؤلّفات في هذا الباب، أبرزها "الحب في القرآن" و"إجماع المسلمين على احترام مذاهب الدين". في السنوات الأخيرة، أخذ دور الأمير غازي يتوسّع ويستشار في كافة السياسات التي تتعلّق بالمؤسسات الدينية، ويشرف شخصياً على تعيين قادة ومدراء هذه المؤسسات في المواقع العليا، كوزير الأوقاف وقاضي القضاة ومفتي المملكة ورؤساء الجامعات والمعاهد ذات الطبيعة الإسلامية. ومع ذلك، وفقاً للباحث، إلى الآن، لا يوجد مجلس رسمي بصلاحيات واضحة ومحدّدة لترسيم الخطوط العامة للسياسات الدينية، ويضع مراحل تطوير مؤسسات الدولة العاملة في هذا الحقل، ما يضعف أي خطوات تتخذ باتجاه بناء رسالة دينية للدولة.