مازالت ردود الفعل تتوالى على الحكم, الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا في ليبيا, بإلغاء انتخابات يونيو الماضي, التي انبثق عنها البرلمان, الذي يعقد جلساته في طبرق وحكومة عبد الله الثني, الناجمة عنه. وذكرت صحيفة "الفايننشال تايمز" البريطانية في تقرير لها في 8 نوفمبر أن الحكم, الذي شكل "مفاجأة" لكثيرين, يدفع هذا البلد المنكوب بالحرب, إلى الفوضى وعدم الاستقرار السياسي. وأضافت أن الحكم, الذي لا يمكن الطعن عليه, يضع سلطة البلاد في أيدي الإسلاميين والمؤتمر الوطني العام "البرلمان", المنتهية ولايته. وبدوره, قال الخبير الجزائري في القانون الدستوري فوزي أوصديق إن المحاكم الدستورية تمثل أعلى سلطة دستورية، وأحكامها ذات قرينة وحجة مطلقة، وتكون نافذة وغير قابلة للطعن أو الاستئناف. وعلق على الحكم الصادر في ليبيا, بقوله :"جرى العرف أن السياسي ينقذ القانوني، لكن في الحالة الليبية فإن القانوني أنقذ السياسي"، واصفا الحجج القانونية التي استند إليها الحكم بأنها "لا غبار عليها". وبشأن التعاطي الدولي مع الحكم الصادر عن المحكمة العليا في ليبيا، أضاف أوصديق في تصريحات لقناة "الجزيرة" في 8 نوفمبر أن "لغة المصالح تحكم أكثر من منطق القانون، والقوى الدولية تحرّم أشياء على غيرها رغم أنهم يحللونها على أنفسهم". وردا على التشكيك في الحكم, استنادا إلى كونه صادرا عن محكمة منعقدة في طرابلس , التي لا تعترف بمجلس النواب في طبرق، قال الخبير في القانون الدستوري :"إن الدستور ينص على أن المحكمة العليا لا تنعقد إلا في عاصمة الدولة"، مشيرا إلى أن الحكم صادر عن محكمة منصوص عليها في الدستور الذي يعترف به نواب طبرق وأعضاء المؤتمر الوطني العام في طرابلس. وكانت الدائرة الدستورية في المحكمة العليا في ليبيا قضت في 6 نوفمبر بعدم دستورية الانتخابات التي انبثق عنها مجلس النواب, الذي يعقد جلساته في طبرق شرقي البلاد, والتي جرت في 25 يونيو الماضي. وجاء في الحكم أن القانون المنظم لهذه الانتخابات، والذي أعدته ما تعرف ب "لجنة فبراير" لاغٍ, وهو ما يعني حل مجلس النواب الحالي، وكل ما ترتب على هذا المجلس من قرارات تشمل تشكيل الحكومة والإعلان عن انتخابات رئاسية. وتشهد ليبيا ازدواجية بين مؤسستي المؤتمر الوطني العام -المنتهية ولايته- المنعقد في طرابلس، والبرلمان الذي يجتمع نواب منه في مدينة طبرق. وكان نواب احتجوا على قرار البرلمان نقل جلساته إلى طبرق, وعدم تسلمه رسميا من المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته. وفي مرافعات سابقة, طعن عدد من المحامين في دستورية عقد جلسات مجلس النواب في طبرق, وما صدر عنه من قرارات, معتبرين أنه مخالف للإعلان الدستوري وتعديلاته. ويرى النواب المقاطعون لجلسات مجلس النواب أن انعقاد جلسات المجلس في طبرق -وليس في بنغازي, كما نصت على ذلك التعديلات التي أدخلت على الإعلان الدستوري, فضلا عن القرارات الصادرة عنه فيما يخص الوضع الداخلي, يخالف الإعلان الدستوري. وفي تعليقه على الحكم, قال العضو باللجنة التشريعية للمؤتمر الوطني العام محمود الغرياني، إن هذا الحكم الذي شكّل نوعا من "المفاجأة"، يمثل "حلا جذريا يسجل للمحكمة العليا". واعتبر الغرياني في تصريحات لقناة "الجزيرة" أنه بعد هذا الحكم رجع الوضع في ليبيا إلى المسار السياسي الصحيح، معربا عن اعتقاده بأن الضغط السياسي, الذي حصل على المؤتمر الوطني أنتج قوانين وانتخابات غير سوية, في إشارة إلى انتخابات يونيو الماضي, والتي جرت على خلفية اقتحامات متكررة لمقر المؤتمر الوطني من قبل ميليشيات مسلحة, واتهمه بالإخفاق في إدارة البلاد, بعد تسلمه السلطة من المجلس الانتقالي, الذي كان يسير الأمور, بعد الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي. وفي المقابل, قال الناشط والإعلامي الليبي ماهر الشاعري من طبرق إن حكم المحكمة تم تحت التهديد وفوهات البنادق. وأضاف الشاعري أن طرابلس تحت حكم الميليشيات وسيطرتهم، وهو ما يعد في رأيه سببا لتعرض المحكمة وفريقها للتهديد، معتبرا أن المؤتمر الوطني العام جسم "ميّت". وكان المؤتمر الوطني قرر نهاية أغسطس الماضي استئناف جلساته, وبرر قراره بعدم احترام مجلس النواب الإعلان الدستوري, الذي تم وضعه بعد الإطاحة بنظام القذافي. وفي سبتمبر الماضي, أقال المؤتمر حكومة تسيير الأعمال برئاسة عبد الله الثني، وصادق على حكومة "إنقاذ" برئاسة عمر الحاسي. ومن جهته, أعاد مجلس النواب في أكتوبر الماضي تكليف الثني بتشكيل حكومة جديدة, وقد أقر لاحقا تشكيلة الحكومة, التي تجتمع في أقصى شرقي ليبيا. وتعاني ليبيا صراعا مسلحا دمويا في أكثر من مدينة، أبرزها العاصمة طرابلسوبنغازي، بين كتائب مسلحة تتقاتل لبسط السيطرة، إلى جانب أزمة سياسية بين تيار محسوب على الليبراليين وآخر محسوب على الإسلام السياسي. وأفرز الصراع السياسي, جناحين للسلطة في البلاد لكل منه مؤسساته، الأول: البرلمان الجديد المنعقد في مدينة طبرق شرقي ليبيا, وحكومة عبد الله الثني، ورئيس أركان الجيش (عينه مجلس النواب) عبد الرزاق الناظوري، ويدعم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. أما الجناح الثاني للسلطة، يوجد في العاصمة طرابلس, ويضم المؤتمر الوطني العام "البرلمان السابق", ومعه رئيس الحكومة عمر الحاسي، ورئيس أركان الجيش جاد الله العبيدي, الذي أقاله مجلس النواب. ومنذ يوليو الماضي, تدور معارك يومية في بنغازي شرقي ليبيا بين القوات الموالية للواء حفتر, ومسلحي مجلس شورى ثوار بنغازي. وكان حفتر دشن في 16 مايو الماضي، عملية عسكرية سماها "الكرامة" ضد كتائب الثوار الإسلاميين السابقين, متهما إياها بأنها من تقف وراء تردي الوضع الأمني في مدينة بنغازي، بينما اعتبرت الحكومة في طرابلس آنذاك ذلك "انقلابا على الشرعية, كونها عملية عسكرية, انطلقت دون إذن من الدولة".