روعتنا حادثة احتراق ثمانية عشر من التلاميذ والتلميذات ومواطنين آخرين إلى درجة التفحم، وإصابة عدد مماثل إصابات بالغة وهم في طريقهم من إحدى قرى محافظة البحيرة إلى مدرستهم في الإسكندرية صباح أمس الأربعاء 5 نوفمبر 2014. وقبل هذه الحادثة المروعة فقط بثلاثة أيام كانت قد وقعت حادثة مروعة أخرى في طريق الكوامل بمحافظة سوهاج، وكان ضحيتها أحد عشر من طالبات الجامعة، وقبلها بأيام كانت فاجعة مقتل أكثر من ثلاثين من جنود وضباط القوات المسلحة في سيناء. نسأل الله تعالى الرحمة لجميع الضحايا، والشفاء العاجل لجميع المصابين، والصبر والسلوان لأهلهم ومحبيهم. وفي صباح هذا اليوم الخميس 6/11/2014 تواصل ورود الأنباء المحزنة بسقوط ضحايا جدد في محطة للقطار بمدينة منوف، ونشوب حرائق هائلة في مدينة العاشر من رمضان، وانفجار في محطة مترو المرج، وانفجار آخر لقنبلة بدائية في محيط قصر القبة!. إن المروع والمفزع معاً هو أن تتم معالجة مثل هذه الحوادث الأليمة والمتكررة معالجة "إنسانية" فقط، يهرع فيها هذا المسئول أو ذاك إلى تقديم واجب التعازي والمواساة لأهالي الضحايا. ومن المروع والمفزع معاً أن يتم التعامل مع هذه الحوادث فقط بمعالجة آثارها المباشرة، أو الإمساك بالمتسببين المباشرين فيها وتحميلهم كامل المسئولية عنها. ومن المروع والمفزع معاً أن يتسابق المسئولون الحكوميون عن مثل هذه الحوداث إلى تبرئة أنفسهم والجهات التي يعملون فيها من ارتكاب أي خطأ، أو التسبب في أي تقصير، أو القيام بأي عمل، أو الامتناع عن أي عمل يكون قد أسهم في وقوع هذه الحوادث الكارثية؛ حتى لا يبقى مسئولاً عن الكارثة إلا ضحاياها!. ومن المقرف أن يسهم "الإع ...لام" في تخدير الرأي العام وتزييف وعيه بهذه الجرائم المتتالية. في حادث البحيرة الأليم، سارع وزير النقل إلى تحميل سائق الأتوبيس المنكوب المسئولية لأنه "تجاوز السرعة المقررة"، ولا يعقل أن يكون تصريحه هذا نتيجة تحقيقات قامت بها النيابة المختصة؛ إذ جاء تصريحه فور وقوع الحادث وقبل ظهور أية نتائج للتحقيقات مثلما فعل أسلافه من قبل في حوادث القطارات والسيارات. ولم يسأل هذا المسئول نفسه السؤال الأهم وهو: ما الذي يشجع بعض السائقين على تجاوز السرعة المقررة؟ وهل توجد سوابق رادعة لمعاقبة من يرتكبون مثل هذه المخالفة؟ وهل تقوم شرطة المرور بواجبها في ضبط المخالفين وتعقبهم أم لا؟ وهل إذا ضبطتهم يتم تقديمهم للمحاكمة وتوقيع العقوبات عليهم أم لا؟ وماذا فعل هو شخصياً من موقع مسئوليته للحد من هذه المخالفات؟. من جانبها هرعت مصلحة الطرق والكباري هي الأخرى لتقول إن حادث البحيرة "مروري وأن سائق الأتوبيس يتحمل المسئولية"، دون أدنى إشارة إلى عوامل أخرى من المحتمل أن تكون قد أسهمت في وقوع هذه الكارثة؛ لأن أية إشارة من هذا النوع سوف تحمل مسئولي الهيئة نصيباً من المسئولية؛ مثل تدهور البنية التحتية للطرق والكباري، وعدم وجود لافتات مرورية واضحة وكافية على جوانب الطرق، وافتقاد شروط الأمان والسلامة في سيارات نقل المواد الملتهبة كالبنزين، والتراخي في إصلاح الأضرار التي تصيب الطرق بين الحين والآخر نتيجة عدم التزام سيارات النقل الثقيل بالحمولات القانونية، ورداءة المواد المستخدمة في رصف الطرق وترميمها، وعدم مطابقتها للمواصفات الهندسية السليمة...إلخ. الحكومة ممثلة في رئيسها المهندس إبراهيم محلب هرعت هي الأخرى إلى مكان الحادث للاطللاع على أحوال الضحايا والمصابين. وهي مشكورة على هذا التحرك العاجل. ولكن المروع والمفزع معاً في هذا التحرك الحكومي أمران: الأول هو مسارعة محلب إلى إلقاء المسئولية على ما سماه " إرهاب الإهمال". وهو توصيف جديد ومبتكر فعلاً، وأنا أوافق سيادته عليه. ولكنه لم يوضح لنا كيف ستتصدى حكومته لهذا النوع الجديد من الإرهاب؟ وهل هو جديد حقاً أم مستمر منذ سنين؟! و ما الإجراءات العاجلة التي عزمت حكومته على اتخاذها لمواجهة هذا الإرهاب الذي حصد خلال مدة لا تزيد عن شهر أكثر من خمسين تلميذاً وطالباً، إضافة إلى عشرات آخرين من المواطنين ضحايا حوادث الطرق؟. أما الأمر الثاني فهو أمر محلب "بنقل المصابين لمستشفيات القاهرة لضمان الرعاية الصحية". طبعاً لابد من شكره على هذا الإجراء أيضاً من باب التضامن مع المصابين. ولكن: ما معنى أن يكون إسعاف بعض المصابين وعلاجهم في مستشفيات القاهرة، بينما وقع الحادث الذي تعرضوا في الطريق بين البحيرةوالإسكندرية؟ هل محافظة البحيرة التي ينتمي إليها هؤلاء الضحايا وأهلوهم وأسرهم لا توجد بها مستشفيات ذات كفاءة لتقديم ما يحتاجونه من الرعاية الصحية؟ وإذا كانت الإجابة نعم والحقيقة المرة هي أن البحيرة لا تتوافر فيها مستشفيات لمثل هذه الحالات؛ أفلا تتوافر هذه المستشفيات أيضاً في الإسكندرية وهي الأقرب لها من القاهرة؟. وإذا كانت هذه هي الحقيقة المرة أيضاً ، وأن الأمر لا يختلف في البحيرةوالإسكندرية عن أي محافظة أخرى سوى القاهرة؛ فلا معنى له إلا أنه كاشف عن فداحة الخلل الواقع في منظومة المؤسسات الصحية، وكاشف عن جريمة أعظم وهي "ظلم" محافظات الأقاليم وانعدام عدالة توزيع الخدمات على المستوى القومي، واستئثار القاهرة بأغلب المزايا والمرافق على حساب بقية المحافظات. ما يزيد الشعور بالأسى والألم، ما صرح به بعض المسئولين في المؤسسات الدينية الكبرى في سياق تقديمهم واجب العزاء إلى أهالي الضحايا والمصابين: فكل من شيخ الأزهر، ومفتي الجمهورية، ووزير الأوقاف؛ قد واسى الأهالي بما يجب، وبأفضل العبارات التى تقال في مناسبات "الوفاة". (لم يصدر عن الكنيسة عزاء حتى كتابة هذه السطور). وليس أفضل مما قاله شيخ الأزهر لأهالي وأسر الضحايا، وتناقلته وسائل الإعلام. قال لهم" إن أبناءكم الآن في طريقهم إلى جنة الخلد، وسوف يأخذون بأيديكم إليها إن شاء الله". مثل هذه الكلمات لا شك ستنزل بردا وسلاما على قلوب المفجوعين في أبنائهم وبناتهم، ونحن نؤمِّنُ على قول الشيخ. ولكن نقول أيضاً إن مثل هذا العزاء هو جزء فقط من مسئولية شيخ الأزهر في هذه الكارثة وأمثالها، أما الجزء الآخر فهو أن يطالب بمحاسبة المسئولين الحكوميين عن هذه الكارثة وأمثالها من الكوارث التي تزهق الأرواح، وتضيع مقاصد الشريعة الغراء التي أمرت بحفظ النفس، وحفظ النسل، وصون حق الحياة، ووضعت عقوبات رادعة لمن يعتدي عليها، أو يتسبب في إهدارها، أو الإضرار بها. وليس من مناسبة أليق وأكثر تأثيراً من هذه المناسبة الحزينة وأمثالها يا فضيلة شيخ الأزهر كي يرتفع صوت الأزهر مذكراً بقيم الإسلام العليا، ومبادئه السامية التي تستهدف صون حق البشر في الحياة الآمنة، وفي السعي والكدح والوصول إلى رضا رب العالمين، والوصول إلى جنة الخلد أيضاً بطريق العمل الصالح، والتفوق العلمي، وتعمير الدنيا، إلى جانب "طريق البحيرةالإسكندرية" إذا كان قضاء الله وقدره قد حكم بهذا على أبنائنا وبناتنا من هؤلاء الضحايا. ليس أنسب من هذه الفاجعة لكي ينهض الناطقون باسم المؤسسات الإسلامية لينبهوا المسئولين إلى تقصيرهم في القيام بواجبهم الشرعي والإنساني أولاً، ثم الدستوري والقانوني ثانياً في حمياة أوراح الناس، وأن يطوروا خطابهم "الديني" كي يتواكب مع وقائع العصر ويستوعب كوارثه، ويبرهن على كفاءته في التواصل مع هموم الناس ومشكلاتهم، ويضغط على ذوي الضمائر من المسئولين كي يقوموا بمسئولياتهم التي ائتمنوا عليها. ولو فعلها شيخ الأزهر لأكمل عبارته العزائية لتكون " إن أبناءكم الآن في طريقهم إلى جنة الخلد، وإن المسئولين عما حدث لأبنائكم في طريقهم إلى غياهب السجن بعد تحقيق قانوني عادل وناجز نطالب به وننتظره قريباً". أخشى ما أخشاه عندما أسمع كلمات طيبة كالتي قالها شيخ الأزهر في عزاء أسر الضحياي أن يتطامن الناس إلى أن طريق البحيرةالإسكندرية، أو طريق الكوامل في سوهاج، أو غيرها من طرق الموت السريع، هي الطرق المضمونة فقط "إلى جنة الخلد"، دون غيرها من طرق العيش الكريم، والعمل الصالح لوجه الله والإسهام في عمران الأرض. ولا أظن أن شيخ الأزهر يظن ذلك، ولا يقصده أبداً؛ ولكن قصور التعبير في خطابه الذي واسى به أهالي الضحايا وأسرهم وعدم استيعابه لمسئوليته من كل أطرافها قد يؤدي إلى شيء من هذا؛ لهذا وجب النصح والتنبيه، "وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين".