ما يؤكده هذا الوضع المضطرب الذي تعيشه اليوم جموع عظيمة من شعوب العالم بالثورات والتظاهرات والإعتصامات، عموما بحركات منادية للإصلاح والتغيير، أن العدالة الإجتماعية فيه غائب، وأنه واقع – على ما يبدو – سيبقى على ما هو عليه ما لم تستحدث الحكومات القائمة فيه نظمها الإقتصادية والسياسية بصورة جذرية أو أن تنتصر الثورات على القوى الرجعية القائمة فيها لإحقاقها. التغيير أمر غير قابل للجدال ... ساعته قد حانت، وبالذات في زمننا هذا، زمن العولمة. كل شواهد العصر تؤكد الحاجة إليه، وبالذات في الدول النامية. ... ففي الوقت الذي تدير الدول المتقدمة إقتصادها بسياسة السوق الحر (free market economy)، التي يتم ضبط توجهات السوق فيه بألية العرض والطلب في إطار مقنن ليحقق طموحات وتوجهات المواطنين المشاركين فيه على أكمل وجه ممكن، وتدار سياساتها الوطنية - في نفس الوقت - بنظم ديمقراطية تهدف لإحقاق أكبر قدر ممكن من التطلعات الشعبية على مختلف توجهاتها، نجد أن النظم المعتمدة في الدول النامية - بصفة عامة – لا تعطى لمؤسساتها أو شعوبها المساحة الواجبة لأن تتفاعل معها في إدارة شؤونها، بل شبه عازلاها عنها، فعن العمليات الحيوية المعنية بتقرير مصيرها وطموحاتها، ليستقر بها الحال اليوم على الصورة الحزينة التي نشهدها لها ... لا نهضت أو تركت لأن تنهض بنفسها. الإقتصاد في عموم الدول النامية - كالسياسات القائمة فيها - خير مثال على السابق ذكره، فهو غير ديناميكي – بمعنى غير متفاعل مع محيطه، وبصفة عامة موجه (state directed economy)، يدار من حكوماتها بشكل مركزي أو شبه مركزي، بصورة – كما ذكرنا سابقا - لا تفسح المجال الواجب لشعوبها للمشاركة فيه، بمعنى توجيهه، كما يحدث في الدول المتقدمة من خلال نظام السوق الحر المعتمد لإقتصادها، فمكبلة دورها فيه، بدلا من حث كافة قواها وقدراتها وطاقاتها الإيجابية الواردة فيها على التفاعل معها لننفع العام الذي يرجى منه. لا أريد ان يفهم القارىء أن العمل بالنظام الإقتصادي الموجه أمر خاطىء... أبدا ! فللضرورة أحكام، والسياسة الموجهة إحدى السياسات التي يتم العمل بها عند الضرورة. فهي على سبيل المثال ضرورية عند تعرض الدولة لعدوان أو حصار إقتصادي أو ظروف طبيعية قاسية تعصف على سبيل المثال بمحاصيلها، فمواردها الطبيعية. في مثل هذه الظروف الإستثنائية قد تضطر الدولة للجوء للنظام الموجه، لتضمن به مواطنيها الحصول على حصة من السلع المحدودة التي تملكها لحين توفيرها له في السوق، الذي سيتولى عندئذ - في إطار قانوني - بعملية العرض والطلب شأنه، بعيدا عن عناية أو رقابة الدولة. أزمة رغيف العيش على سبيل المثال، القائمة في مصر منذ عقود، من الأزمات التي وجب إدارتها بنظام موجه. أتعجب أنها قائمة على أرض النيل الخصب إلى اليوم. لو تم إدارتها بالصورة الواجبة منذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها معالمها لحلت المشكلة في فترة وجيزة. على نقيض أزمة رغيف العيش، وجب حل أزمة تصدير الغاز لإسرائيل بأحكام السوق الحر. فسعر الغاز - كأي سلعة في العالم - يحدده السوق (البورصة). لما كان الأمر كذلك، كان لا بد أن يتم بيعه بالسعر المحدد له منه. تلك هي الأعراف المعمول بها دوليا في بيع أو شراء أي سلعة، لا ينكرها سوى لئيم أو لص. لذلك يتعجب المرء في هذه الأزمة أنها ما زالت قائمة إلى حاضرنا أيضا. عن نفسي، أحسبها أزمة سياسية مصطنعة. بدليل، لو أن مصر إمتنعت عن تصدير الغاز لإسرائيل، لكانت إسرائيل ستشتريه بسعر السوق من مصدر أخر. لذلك أعتبر سماح المجلس الأعلى تصدير غاز مصر لإسرائيل بثمن بخس جريمة سياسية في حقنا وحق دماء شهداءنا الذين ماتوا دفاعا عن مصالحنا، لأنها تجعل مصر تبدو في الساحة الدولية كأنها مستعدة لبيع الوطن وكنوزه بسياسة التراض بثمن بخس، وهو ما لن يحدث أبدا. حقا، لقد كشفت الثورة لنا الكثير الكثير عن حال مصر ... كلها تستدعي العجب. الإقرار الذي إعتمدته حكومة عصام شرف لمشروع د. الباز "ممر التنمية"، الذي يهدف لإعمار غرب النيل ب 200 مدينة ونصف مليون قرية، على الرغم من علمها أن القدرات والإمكانيات القائمة في الوطن اليوم غير كافية حتى لكفل المواطن حاجاته الأساسية، كرغيف العيش أو الأمن، إحدى تلك العجائب التي وجب سؤالها في شأنه، كيف أقرته وهي تعلم أن الإقتصاد لا يتحمل أعباءا زائدة؟ كيف تراءى لها قدرة الوطن على إحقاق مشروع د. الباز ذو الإمتدادات السياسية والإقتصادية الواسعة، وهو أصلا غير قادر على توفير رغيف عيش زكي – غير مغشوش - لمواطنيه؟ أرجو ألا يكون تفكير حكومة شرف قد ذهب إلى تقاسمه غدا مع أهالى المدن الجديدة؟ ... متى يدرك وزراءنا أن دفع الإقتصاد لا يصح إلا بعد تأمين أساسه؟ بل متى يدرك الوطن وزراء مؤهلين لحمل مهامه؟ بالمناسبة، هل لاحظ أحد المدة التي إحتاجتها اللجنة المعنية بدراسة مشروع د.الباز لإقراره؟ حقيقي إنها من أكبر العجايب التي شهدناها - أنا والعالم الدكتور الجريسي - إلى الأن، فلم تزذ - بحد علمنا - عن ثمانية أسابيع. إنها أعجوبة وجب تسجيلها في كتاب الغينيس للأرقام القايسية تحت بند أسرع قرار تم في تاريخ الجمهورية - بل جمهورية – لعمرانها ب 200 مدينة ونصف مليون قرية. قرار هذه اللجنة لا يمكن أن يعتد به، لأنه مستحيل أن تكون لها دراية أو رؤية واضحة لموضوعه غير القائم من أساسه، بدليل غياب الدراسات والأبحاث العلمية والميدانية الواجبة في شأنه. كل ما قدمه الدكتور الباز إلى الأن مجرد رؤى نظرية لمشروع يؤمن به، لا سند علمي يدعمه أو مخططات هندسية توضح السبل أو الكيفية التي سيعمل بها لإحقاقها. لعله يتصل بالعالم الدكتور الجريسي* الذي يعرفه شخصيا ويعلم حجم علمه - الذي يفوق حسب تقديري علمه وعلم الدكتور زاهي حواس مجتمعين - فيفيده بالبيانات الواجبة التي ذكرتها. وللعلم، الدكتور الباز أصلا غير مؤهل لتقديم المشروع الذي أفاده للجنة، فمجال إختصاصه هو المجسات الإستشعارية ( Remote Sensing) ، يمكن للقراء أن يتأكدوا من ذلك من خلال الرجوع إلى أبحاثه. في الدول المتقدمة لو قدمت لجنة حكم أو إستشارة في موضوع ليس من إختصاصها لقالوا عنه باطل، وإذا تقدم إنسان فيها بدراسة ليست من مجال إختصاصه لما تقبلته منه أساسا، كذلك إذا إجتمع فيها طرفان على باطل قالوا عنه إتفاق جنائي وأمرت النيابة بالتحقيق في شأنهم، أما في الدول النامية، حيث الجهل والفساد منتشر، ودور الرقابة غائب أو غير قائم، فالصيد في الماء العكر ظاهرة عامة فيها. إحذر أيها الوطن من رموز العصر البائد، فما هي بأعلام وطنية ولا حتى دولية بل صناعة إعلامية وسياسية لا غير. أسفني والعالم الدكتور الجريسي أن نقرأ للدكتور زويل أنه يريد أن ينهض مشروعا بعلماء يصل راتب كل منهم - بحسب ما أفاده ولا أقول ما أفادت دراسته الإقتصادية ، فلم نسمع عنها أيضا – خمسين الف دولار في اليوم الواحد. إنه مبلغ مهول لم نسمع قط أن حصل عالم عليه، ولا يمكن أن نتخيل كيف توصل الدكتور زويل إليه، لذلك نقول عنه أنه غير مقبول دون دراسة جدوى إقتصادية تبرره أو تدعمه. لو تأملنا نهضة الصين في عصرنا هذا، لأدركنا أنها لم تنهض بحملة درجات النوبل أو صناديق خيرية وتبرعات المحسنين، بل بعلماء أكفاء أفرزهم النظام التعليمي والبحثي القدير الذي تبنته الدولة لشعبها بنظام موجه. لذلك أوصي بالمنهاج الإصلاحي الذي رسمه الدكتور الجريسي للوطن، ونشرناه على موقع المصريون الفاضل، لأنه يهدف في الدرجة الأولى لنهضته بنهضة قدرات شعبه ومؤسساته القائمة فيه. أهم حاجة للوطن الأن الإصلاح، أولى الإهتمام به بدلا من الإهتمام بمشاريع لا تحقق تلك الغاية. أنصح المجلس الأعلى وحكومة عصام شرف دراسة سبل نهضة إقتصادنا بمواردنا وقدراتنا، وحماية مصالحنا وثرواتنا، مثلا بإلغاء الصفقات المشبوهة التي تمت في عهد النظام السابق بعيدا عن إرادة الشعب، كصفقة بيع الغاز لإسرائيل أو بيع بنك الإسكندرية، كذلك الحد من السياسات الداخلية والخارجية التي تتخبط بإقتصادها، والعمل بالأصول المعروفة لها، فذلك أولى من الإستمرار بالسياسات الخاطئة التي كانت قائمة في الوطن قبل الثورة. لن يستقيم حالنا ولن تتحقق أهداف الثورة إذا إستمرينا بها وبرموزها، كلها لن تخدم سوى الدول والرموز التي أعانت الحكومة الفاسدة علينا وعلى شعوب المنطقة العربية والأفريقية. ... تتحدث وسائل الإعلام عن الثورة المضادة، أقول لها إنها بدأت منذ أن تدخلت القوى الأجنبية في شؤوننا لتكريس مصالحها الباطلة التي حققوها فينا مع حلفائها السابقين. الصيد في الماء العكر أهم سياسة قائمة لديها الأن، وللأسف السياسة التي بنت عليها الأمم "المتقدمة" رخاءها، فغابت العدالة الإجتماعية بها عن وجه الأرض... الأمر الذي لا يجب أن ننساه، والذي أرجو من الربيع العربي أن يعيده لها ... وما النصر إلا من عند الله. السيد الطرابيلي [email protected] /*/ العالم الدكتور / أحمد الجريسي http://www.bgi.uni-bayreuth.de/organization/bgistaff/staffinfo.php?id=128 http://en.wikipedia.org/wiki/El_Goresy /1/ http://www.heute-in-israel.com/2011/03/erdgas-und-zwei-fragen.html