الأحداث التي مرت بها مصر خلال الأسبوع الماضي تؤكد لكل ذي ضمير وبصيرة وطنية الأهمية والأولوية القصوى لسرعة بناء مؤسسات دولة الشعب والثورة ، وتحديدا أركان الدولة الثلاث الأساسية التي تدير شؤونها خلال المرحلة المقبلة ، وهي البرلمان الوطني الحر المنتخب بإرادة شعبية حرة ونزيهة ، والحكومة الوطنية التي تأتي باختيار الشعب وإرادته ، ثم رئيس الجمهورية الذي يختاره الشعب للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية المصرية . هل كان من الضروري أن نصطدم بواقع بائس ومعاكس لآمال وطموحات الثورة من أجل أن نقتنع بأن أهداف الثورة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال حكومة منتخبة ومفوضة من الشعب ، وبرلمان منتخب وقوي وقادر على المراقبة والمحاسبة والجزاء ، الذين فزعوا من الخلل الأمني ومن بقاء نفوذ ضباط أمن متهمين بارتكاب جرائم ضد الثوار وقيادات أخرى فاسدة ، وطالبوا بإقالة وزير الداخلية منصور العيسوي ، ألم يستشعروا أي مساحة من الحرج أو التناقض بين تلك المطالبات العاجلة وبين صراخ نفس المجموعات من أجل تأجيل الانتخابات وتأجيل اختيار حكومة "الشعب" المنتخبة وتأجيل انتخاب رئيس للجمهورية ، بدعوى الحاجة الماسة أولا وقبل كل شيء لكتابة نصوص دستورية راقية وجميلة وحضارية ، ألم يسأل أحدهم نفسه : ما قيمة هذه النصوص الجميلة والحضارية طالما أن المؤسسات القائمة على إدارة الواقع الأمني والسياسي والقانوني والاقتصادي والثقافي والإعلامي كلها مهترئة ومعاندة للثورة ومزروعة بالعناصر التي تمثل طلائع الثورة المضادة ، هل يصح لنا أن نقول في هذه الحالة عن النصوص الدستورية الجديدة العبارة العامية الشائعة "بلوه واشربوا ميته" . أيهما أولى الآن يا أولي الألباب ، تطهير وزارة الداخلية وإعادة بناء المؤسسة الأمنية على أسس جديدة وقيادات جديدة وسياسات جديدة ووزارة جديدة ، أم نقضي الأشهر الطويلة وربما السنوات من أجل الجدل والنقاش حول "نصوص" دستورية جديدة ، أيهما أولى الآن وأخطر يا أولي الألباب أن ننشغل بكتابة نصوص جميلة وحضارية أم أن نصنع مجلسا نيابيا قويا بأنياب ديمقراطية حقيقية يستطيع أن يحاكم أي قيادة سياسية أو أمنية رسمية وأن يجلدها أمام الرأي العام ويقرر عزلها أو عزل الوزارة كلها إذا حادت عن مطالب الشعب ومصالحه أو تجاوزت في الاعتداء على حقوق مشروعة أو حريات المواطنين . هل الأمر يستحق كل هذا الضجيج وهذه العصبية والتشنج من أجل رفض نتائج الاستفتاء الشعبي الناصع الذي كان معلم فخر للثورة المصرية ، سواء من حيث مساحات الحوار والجدل الواسع حوله من جميع قطاعات الشعب ، أو من حيث زخم الحشد والتصويت الذي بذلت فيه جميع التيارات والقوى السياسية أقصى ما تستطيع ، هل كان الأمر يستدعي أن يفقد البعض عقله لكي يقول بأن هذا الاستفتاء غير شرعي ، أو أنه مزور ، هل كان الأمر يستدعي أن يتورط "مناضلون" في السخرية من الشعب المصري الذي صوت بالموافقة على التعديلات الدستورية ويصفهم بأنهم دراويش سذج ضحك عليهم بعض المشائخ وقالوا لهم قولوا نعم تحصلوا على شقة في الجنة ، هل قمنا بالثورة على نظام ومنظومة مبارك لكي نسقط أسرى صحف وفضائيات نفس المنظومة الفاسدة التي انتفخت كروشها من المال الحرام في عصر مبارك . مصر اليوم أحوج ما تكون إلى العقل والحكمة ، والبعد عن المهاترات ، ليس من أجل نصرة هذا الحزب أو ذاك أو هذا التيار أو ذاك ، فكل من تابع هذه الصحيفة على مدار ست سنوات يعرف جيدا كيف كنا ننتقد الجميع إذا أخطأوا من وجهة نظرنا في حق الوطن ، أيا كان الشخص أو الحزب أو التيار الذي يمثله ، بمن في ذلك قوى التيار الإسلامي المختلفة ، مما عرضنا لحملات نقد عنيف ، ونحن اليوم عندما نناشد الجميع التوحد خلف البرنامج الوطني الذي حدد معالمه وخطواته الاستفتاء الدستوري ، فإننا نبتغي نصرة الوطن نفسه ، بغض النظر عن أي حزب أو تيار ، ونرى بكل يقين ، أن ثورة مصر لن يكتب لها النصر الكبير والانتقال بالوطن إلى الديمقراطية إلا بالمبادرة اليوم قبل غد بانتزاع برلمان وطني حر وقوي وفاعل ، وحكومة منتخبة تملك تفويضا من الشعب ، ورئاسة للدولة تعرف أنها أتت بأصوات الناس ، ويمكن أن تذهب بأصواتهم أيضا ، هذه هي الأولوية القصوى ، وهذا هو مفتاح حل كل مشكلاتنا ، وهذا هو المدخل البديهي لحملة التطهير الشامل والعلمي والنافذ لأجهزة الدولة الأمنية والاقتصادية والقضائية والإدارية ، وكل من يطالب بتأجيل هذا البرنامج الوطني فهو بكل تأكيد قصد أو لم يقصد داعم مباشر لاستمرار أذناب النظام السابق ، وداعم مباشر لبقاء قيادات أمنية فاسدة وإجرامية ، وداعم مباشر لبقاء قيادات وزارية وإدارية في أعلى هرم الدولة المصرية معيقة لأي مشروع للنهضة ومحبطة لأي مواهب جديدة وطاقات خلاقة ، وداعم مباشر لبقاء الفساد والعفن في قطاعات حساسة مثل القضاء والإعلام والثقافة والزراعة والتعليم وغيرها ، وداعم مباشر لبقاء سياسات وخيارات فاسدة ومختلة في مختلف قطاعات الدولة لا تمثل أي طموح لثورة الشعب المصري وأهدافها ، ... هل الصورة فعلا غير واضحة أيها الرفاق . [email protected]