لم يكن سقوط صنعاء بكامل مداخلها ومخارجها أو أغلبها، وسيطرة قوات الحوثي الطائفية على أغلب مؤسسات الدولة اليمنية مفاجئا لمن يتابع الشأن اليمني منذ فترة ليست بالبعيدة. العالم العربي يعاد تشكيله، وعواصمه الكبرى وهوامشها يعاد تركيبها: إما بتحريك الشعوب والحكومات في إطار صراعات اجتماعية ممتدة لا تبقي ولا تذر. وإما بصراعات إقليمية تستهلك طاقات أغلب تلك العواصم. وإما باختراقات إقليمية ودولية لمحاور الحلفاء والأعداء على السواء ونقل التهديدات من الأطراف والهوامش إلى الأعماق والقلب. سقوط صنعاء بداية التحولات وليست نهايتها والتوازنات الإقليمية التي سادت فترة من الزمن في طريقها إلى الاختلال بل والانهيار. أربع عواصم عربية كبرى ومتوسطة ذات دلالة -في الموقع والمكانة والجغرافية- لميزان القوى العربي تقع بيد إيران، ذلك الطرف الإقليمي المناوئ لكثير من العواصم العربية الكبرى. أربع عواصم عربية كبرى ومتوسطة تفاوض بها إيران على مذبح السلاح النووي وتعلن استعدادها للتفاهم بشأن تلك العواصم العربية إذا أبدت الدول الكبرى في معادلة خمسة زائد واحد بعض المرونة فيما يخص سلاحها النووي. أربع عواصم عربية كبرى ومتوسطة تبدي إيران استعدادها للتنازل فيما يخصها في تلك العواصم إذا تنازلت الدول الكبرى فيما يخص السلاح النووي. هكذا السياسات الدولية والإقليمية بلا مواربة ولا حياء وبلا احترام للكيانات الدولية الأعضاء في الأممالمتحدة. والأمر جد لا هزل فيه ولا مزاح. اللعبة الإقليمية تداخلت مع اللعبة الدولية، وهي طوال عمرها متداخلها، ولكن هناك من لا يصرخ إلا إذا مسكت النيران في تلابيب بيته، وهناك من لا يتحرك إلا إذا أحرقته النيران بشكل مباشر، وشعر بلهيب الحرق. الدول كبراها وصغراها لا تفكر إلا بالنتائج على الأرض، وبقدر ما يضغط عليها بقدر ما تقدم كيانات أخرى كباش فداء وتتضحي بالآخرين حماية لموقعها وموضعها. والإمبراطوريات الكبرى لا تعرف منطق الحلفاء ولا تفكر بهم ولا تأخذها بهم رحمة، إذا ضيق عليها الخناق واحتاجت للحطب لتشعل نيرانها وتحمي مصالحها. الإمبراطوريات الكبرى لا تفكر في مصير الضعفاء ولو كانوا من أتباعها. الإمبراطوريات الكبرى لا تفكر في مستقبل الشعوب الأخرى والدول الأخرى، حتى وإن راهنت عليهم فترة من الزمن. هكذا العقل الإمبراطوري وهكذا التفكير الدولاتي لا يبكي على أحد، ولا يفكر بمستقبل أحد خاصة إذا كان لا يملك بدائل أو سيناريوهات أخرى. سقوط صنعاء سيعيد تشكيل خريطة جنوبالبحر الأحمر وباب المندب وسيكون له قول مختلف مع الجارة الشمالية السنية العربية وسينقل الصراع مع قوى العالم العربي مرحلة أخرى أشد ضراوة وأشد شراسة. ولن يأخذ نظام منصور هادي في المفاوضات بأقسى مما تصل إليه مدافعه –كما علمنا نابليون في خطط الحرب والمفاوضات- وقد خرجت الدولة اليمنية نفسها من المعركة مكشوفة سواء بخيانات داخلية أو بتحالفات إقليمية خارجية، فهذا الكلام لا يسمن ولا يغني من جوع في الصراعات المسلحة على الأرض، ولا يشفع لنظام أوتي من داخله، ومن حكامها وحلفاءه السابقين. وكانت المفاوضات بين الحكومة اليمنية والحوثيين تعبيرا أمينا ودقيقا عن ميزان القوى على الأرض وعن مخرجات المعركة على الأرض. ورغم الاتفاق والهدنة انتشر السلاح الحوثي في جنبات العاصمة صنعاء وسيطر على أغلب مؤسسات الدولة ورغم تعثر التفاوض واستمرارها فرضوا شروطهم. اليمن رابع عاصمة عربية تسقط، وتخرج من حساب ميزان القوى العربي. والحسابات الدولية والإقليمية لا تعرف الرحمة ولا الرفق بالمهزومين. والتحالفات الدولية والإقليمية لا تفكر بالماضي ولا تبكي على الأطلال. التحالفات الدولية والإقليمية لا تفكر إلا بالمستقبل، والمستقبل القريب والمتوسط وتعمل على تشكيل الآني والمتوقع وتلعب في التوازنات المنتظر حدوثها. رابع عاصمة عربية ترفع الراية البيضاء أمام التمدد الإيراني وتذعن لشروط المنتصر، وتوقع على نتائج المفاوضات تحت وطأة الهزيمة. وإيران لم تعد لاعبا إقليمية بل فاعلا عربيا يفاوض ويناور ويبيع ويقايض ويفكر بمتقبله وكيف يكون شرطي ما يسمى الشرط الأوسط، أو كيل القوى الدولية الكبرى في المنطقة. وهو كلام يحتاج إلى: استراتيجيات جديدة، وخطط جديدة، وسيناريوهات جديدة، وموازين قوى جديدة، أما: البكاء على اللبن المسكوب، والوحدة العربية المنكوبة بأهلها وحكامها، والماضي التليد، فهو كلام العجزة والمغلوب على أمرهم في صراعات إقليمية ودولية ضارية وشرسة.