الأخبار والصور التي بثتها مختلف الفضائيات عن سقوط صنعاء مساء الأحد 12 سبتمبر الجاري في أيدي الحوثيينلا تدع مجالاً للشك في أن هذا السقوط غير مسبوق في تاريخ الصراعات المسلحة. وأعتقد أن مشهد السقوط لخصته لحظة توقيع ما سمي "اتفاق السلم والشراكة" في قصر رئاسة الجمهورية وقد ظهر في هذا المشهد الذي بثته الفضائياتالعربية والعالمية الشخص المفترض أنه رئيس جمهورية اليمن وهو واقف متكئ على المقعد الذي يجلس عليه شاب من عمر أحفاده بلباسه اليمني التقليدي(بالجنبية) ممثلاً لجماعة الحوثي وهو يوقع الاتفاق مع السلطة برعاية جمال بن عمر مساعد أمين عام الأممالمتحدة. يعني برعاية المجتمع الدولي!. حدث ذلك في اللحظة نفسها التي كانت مليشيات الحوثي تطبق على مؤسسات الدولة ورموزها في صنعاء، مع تصريحات موازية ومذهلة لمسئولين حكوميين تؤكد على ضرورة التعاون مع مسلحي الحوثي في المحافظة على مؤسسات الدولة، واعتبارهم "أصدقاء للجيش والشرطة". صورة توقيع ابن الحوثي اتفاق السلم والشراكة بينما الرئيس اليمني يبدومحاولاً أن يصلب طوله على مقعدهمحدقاً في حركة يد "الحوثي" وهو يتمم توقيعه؛ هذا المشهد يلخص الحالة اليمينة كلها، وأقول: والحالة العربية أيضاً، وبخاصة في بلدان المغفور له "الربيع العربي" ليس في اللحظة الراهنة فقط وإنما في المستقبل حالك السواد الذي ينتظر المنطقة برمتها. فهذه عاصمة عربية رابعة تسقط بطريقة إبداعية حقيقة في حظيرة النفوذ الإيراني الشيعي، ولكنها لن تكون الأخيرة إذا بقيت الحال على ما هي عليه في بقية العواصم المستهدفة. فعلى المستوى الداخلي في اليمن، قُضي الأمرُ، وأعاد الحوثيون تذكير الجميع بالمعنى الواقعي للسياسة وهو أنها "لعبة القوة" “Politics Is The Game of Power”لا أكثر ولا أقل، وأن من يملك قوة السلاح، يكون له القول الفصل وليس العكس. ولنتذكر في هذا السياق أن المشهد السياسي اليمني قبل تنحية "علي صالح" كان منقسماً بين السلطة وحزبها الحاكم، والمعارضة المتجمعة فيما كان يسمى "أحزاب اللقاء المشترك"، وكان في القلب من هذا اللقاء "حزب التجمع اليمني للإصلاح" المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين هناك، الذي قاد سفينة الحكمة والصبر الجميل. وبينما كانت الجهود تجري على قدم وساق في أغسطس من العام 2010 لعقد جلسات الحوار الوطني بين هذه الطرفين "السلطة والمعارضة"، كانت جماعة الحوثي منهمكة في ترتيب أوضاعها وتسليح أنصارها واستقبال المدد من طهران استعداداً ليوم الفصل؛ ربما بعلم وخبر السلطات اليمنية الرسمية، والتي لم يكن بوسعها أن تحرك ساكناً أو توقف متحركا آنذاك من فرط الضعف والوهن الذي أصابها بفعل الفساد والاستبداد والفشل والعصبية القبلية. يقول بعض المحللين اليمنيين إن "هناك مؤامرة كبيرة على اليمن لم تتضح كل تفاصيلها بعد". وأقول: لنفترض أن هذا صحيح؛ ولكن لماذا لا يتآمر أهل اليمن فيما بينهم على ردع هذه المؤامرة الخبيثة؟ ولماذا يصر كل فريق على أن ينفرد بروحه ويظن أنه قد ينجو بنفسه؟. والأدهي الذي يعرفه الجميع وينكرونه هو: لماذا يطعن كل فريق الفريق الآخر في ظهره؟. أليس هذا السلوك المشين هو الذي يهيئ للمؤامرة الخارجية من أن تنمو وتترعرع برعايتهم جميعاً، ثم يجدون أنفسهم جميعاً حطباً لتلك المؤامرة؟ ألم تتيقن كل الأطراف اليمينة طوال ثلاثة عقود وأكثر من أن علي عبد الله صالح كان يحكم البلاد بطريقة "الرقص على رؤوس الثعابين" كما قال هو ذات مرة؟ ألم يدركوا أن نموذج الحكم عبر "المحكم الخارجي" فشلت في كل شيء إلا في ترسيخ أقدام الاستبداد، واجتثاث أي معنى للدولة، وإحكام تبعية اليمن للخارج الإقليمي والدولي. الأنباء الواردة من صنعاء تتواتر على أن تسليم صنعاء للحوثيين الموالين لإيران قد تم بالتواطؤ بين قوى متعددة داخلية وخليجية ودولية، وأن قوات الجيش اليمني قد تخلت عن الدفاع عنها بأوامر من جهات عليا وبتنسيق مع الرئيس السابق علي صالح. وبهذا تكون رابع عاصمة عربية قد سقطت في قبضة طهران إلى أجل غير مسمى. وإن خطورة ما يجري الآن لا تتعلق فقط بمعاناة أهل اليمن وتلاشي أحلامهم في دولة تحقق لهم العدل والأمان والعيش الكريم، وإنما تكمن أيضاً فيما هو مرسوم من مخططات تطال المنطقة والأمة بأسرها. على المستوى الإقليمي المحيط باليمن، بات الوضع بالغ الخطورة، والمستقبل القريب حالك السواد. فالحوثيون سيحصلون على أقل تقدير على منفذ بحري وجوي خاص بهم في عاصمتهم "صعدة" وسيفتحون غدا أو بعد غد أبواب اليمن على مصراعيها للنفوذ الإيراني من الخاصرة الجنوبية للعربية السعودية، وستتحكم إيران بالتالي في مداخل البحر الأحمر (عدن، وباب المندب) أضافة لتحكمها في مضيق هرمز قبالة الساحل العماني.وإلى جانب طعن السعودية من الجنوب، سيكتمل حزام الضغط المائي على مصر بعنف من جهة نهر النيل/ وماء الحياة، وقصة سدود أثيوبيا معروفة ، ومن جهة البحر الأحمر والتجارة البحرية المارة عبر قناة السويس. وهو ما يضع مشروع توسعة القناة الجديدة والقديمة معاً في مهب الريح في حال نشوب صراع مسلح عند باب المندب. وعلى مستوى المنطقة العربية برمتها، أضحت طهران نافذة إن لم نقل متحكمة في قرار أربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء، وقد تنضم إليها عواصم خليجية أخرى في غمضة عين على "الطريقة الحوثية في الاستيلاء على صنعاء".وحال كل منها أسوأ من أختها، لا يسر إلا أعداء الأمة. بسقوط صنعاء في قبضة الحوثيين، اهتزت وستهتز في القريب العاجل أسوار عواصم عربية أخرى في إطار عواصف الفوضى والتفكك السياسي والاجتماعي التي تضرب البلدان العربية بقسوة هذه الأيام. فالحوثي كما تشير الأخبار المتوترة عاقد العزم على على التوجه شمالاً بعد أن يرتب شئونه في صنعاء ويثبتها. وجهود أنصاره قائمة على قدم وساق في نهب أسلحة الجيش اليمني ونقلها نحو معاقله في صعدة، استعدادا لمعركة قادمة بذريعة "تحرير الأراضي اليمنية التي تحتلها السعودية منذ ثلاثينيات القرن الماضي"، ويبدو أنه سيسعى بعد أن سيطر على الدولة إلى إجبار الحكومة على توقيع اتفاقية "دفاعية" مع إيران تتيح لها التدخل في الوقت المناسب بحجة شرعية. يقول بعض الغيورين اليمنيين: "لا ندري متى سيتلقى الحوثي الضوء الأخضر الإيراني غير أن الجلي في الأمر هو استخدام إيران للحوثي ومعه جحافل القبائل اليمنية المغرر بها في الشمال من أجل مد السيطرة الإيرانية على الأراضي المقدسة في الحجاز وتحقيق هيمنتها على العالم الإسلامي بالتعاون مع من تسميهم في الظاهر " الشيطان الأكبر"؛ بينما هي تعمل معهم ضمن استراتيجية واحدة هدفها الأساسي دفن حركة التحرر العربي والإسلامي والقضاء على آخر نسمة من نسمات الربيع العربي إلى الأبد. وعلى الطريقة البارعة لصديقي العزيز د. هشام حمامي في اللجوء إلى الشعر للتخلص من أكبر قدر من الهموم التي تكبس على النفس وتضيق الصدر؛ ولفهم ما يجري أيضاً بأقصر الطرق؛ على هذه الطريقة أتذكر بعض أبيات الشاعر اليمني الراحل عبد الله البردوني في قصيدته العصماء "الغزو من الداخل": ومطلعها: فظيع جهل ما يجري .... وأفظع منه أن تدري وهل تدرين يا صنعا ..... من المستعمر السري ؟؟!! إلى أن يقول: أمير النفط : نحن يداك نحن أحد أنيابك....ونحن القادة العطشى إلى فضلات أكوابك ومسئولون في صنعا وفراشون في بابك.... ومن دَمِنا على دَمِنا تموقع جيش إرهابك ...إلخ. وقد يسأل سائل: وماذا عن موقف "المجتمع الدولي" مما يجري وسيجري في صنعاء، وأين الجامعة العربية(هههه)؟. وأقول له دون تردد: دع عنك هذا الوهم المسمى "المجتمع الدولي"، ولا تؤمل إلى في القوى الذاتية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية مهما كانت متواضعة في الوقت الراهن. فمجتمعاتنا لها حق أصيل في الولاية على نفسها. وبيد أبنائها يجب أن تنتهي نزعات الاستبداد والاحتكار والاستعلاء والوصاية والإقصاء، وأن تحل محلها الحرية، والشورى، وثقافة المشاركة، والعدالة، والتواضع، والاستيعاب، والتعاون، والإخاء والسلام.