انحصر التعدد السياسي في البلاد العربية والإسلامية، على التعدد في المرجعية الحضارية التي يستمد منها الموقف والرؤية السياسية. لهذا شهدنا تعددا سياسيا بين التيارات الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية، بوصفها التعبير عن اختلاف الرؤى السياسية. والمدقق لهذا التعدد يرى أن التنوع ما بين تيار ليبرالي وتيار يساري، يعد تنوعا داخل المرجعية الحضارية الغربية. أما التيار القومي، فقد طرح رؤية تبدأ بالهوية الحضارية للأمة، ولكنها تنتهي برؤية سياسية تقوم على التصور السياسي الغربي، خاصة التصور الاشتراكي، ونادرا التصور الليبرالي. وفي مقابل تعددية المشاريع السياسية الغربية، نجد التيار الإسلامي ممثلا لمشروع سياسي نابع من المرجعية الحضارية للأمة. وأعتبر التيار الإسلامي معبرا عن توجه واحد، وأنحصر التعدد داخل التيار الإسلامي ما بين التطرف والاعتدال. والحقيقة أن التطرف والاعتدال تمثل درجات داخل نفس التيار، فحتى التيار اليساري والتيار الليبرالي، يمكن أن يكون بداخلهم توجهات معتدلة وأخرى متطرفة. وكأننا بهذا أمام تيار إسلامي واحد، وتعددية سياسية تقوم في الواقع على التعدد في المرجعية الحضارية للمشروعات السياسية، ما بين المرجعية الغربية والمرجعية العربية والإسلامية. والمتابع لمسار الحركة الإسلامية، يرى أن تنوعاتها بين التطرف والاعتدال، قامت على التباين في رؤية الواقع، وكيفية التعامل مع هذا الواقع، مما ترتب عليه تنوع في الموقف من المشروع السياسي الغربي، خاصة قضية الديمقراطية. وهذا التنوع لا يمثل في الواقع التعدد السياسي المعبر عن رؤى سياسية تختلف في فكرتها عن النظام السياسي وشكل الدولة، قدر ما يعبر عن مواقف تتنوع في تعاطيها مع الظروف السياسية الراهنة. ويمكنا ملاحظة أن الاعتدال عبر في الواقع عن موقف يرى بإمكانية تغيير الوضع السياسي الراهن بالطرق السلمية، أو يرى على الأقل أن الطرق السلمية هي الطريق الوحيد للتغيير، رغم ما قد تواجهه من عقبات. أما التطرف فنتج عن رؤية للأوضاع السياسية الراهنة، تقوم على استحالة تغيير تلك الأوضاع بدون اللجوء للقوة، وهي رؤية تستند لمدى سيطرة النظم السياسية الاستبدادية ومحدودية المساحة المتاحة للعمل السياسي الحر أو انعدامها، كما تستند هذه الرؤية على استحالة مقاومة التدخل الخارجي وهيمنة القوى الغربية بدون استخدام السلاح. ورغم أن التباين في منهج التغيير ينتج عنه تباين في الفكر المبرر لمنهج التغيير، كما ينتج عنه استخراج فقهي متعددة، إلا أن النتاج النهائي للمشروع السياسي للحركات الإسلامية يظل محصورا في المبادئ الأساسية ومنهج العمل المناسب للتغيير. مما أدى في النهاية إلى وضع غير طبيعي في ما يخص التعددية السياسية في البلاد العربية والإسلامية، حيث ظلت في النهاية تعددية حضارية. وعلينا التأكيد على أن تعددية المرجعية الحضارية للمشروعات السياسية في البلد الواحد ليست أمرا طبيعيا، ولا يمكن أن تستمر في حالة وجود حياة سياسية فاعلة تعتمد على التداول السلمي للسلطة، لذا نرى أن هذا الوضع يعبر عن مرحلة ما قبل التأسيس للنظام السياسي المستقر في العالمين العربي والإسلامي. وحتى تنتقل الحركة الإسلامية من مرحلة التعاطي مع الواقع المحيط بها، لمرحلة تغيير هذا الواقع، يصبح من الضروري عليها الوصول إلى تصور عن النظام السياسي المستهدف من حركة التغيير. وصحيح أن تعطل عمليات التغيير يجعل الحركة الإسلامية تتأخر عن الدخول في هذه المرحلة، إلا أن الواقع السياسي الراهن على المستوى القطري والإقليمي والدولي، وما يشهده من تحولات كبرى، يجعلنا في مرحلة تغيير وتحول، تحتاج إلى الوصول إلى رؤية سياسية متكاملة عن مشروعنا الحضاري للتغيير السياسي. ومن جانب آخر، نرى أن المنهج الأنسب للتغيير، هو المنهج القائم على العلاقة بين الوضع السياسي القائم والوضع السياسي المطلوب تحقيقه. فمن خلال تحديد الفروق بين الوضع السياسي الراهن، والتصور المطروح عن النظام السياسي المراد تحقيقه، يمكن تحديد تصور لخطة التغيير والمراحل المتتالية لها. نقصد من هذا، أن رفض الواقع السياسي الراهن، والقائم على محاكاة المشروع السياسي الغربي، والمطالبة بتغييره كليا، تعني ضمنا الدخول في حالة تغيير جذري صراعي. ولكن عملية التغيير لا تكون بهذه الحدة، فهي ليست هدما كاملا وبناء كاملا، بل هي تغيير في بعض جوانب النظام السياسي، مما يؤدي إلى تغيير أسسه ووظائفه. ومن الضروري التأكيد على أن فكرة الاختلاف بين الحركات الإسلامية حول منهج التغيير، والموقف من الأوضاع السياسية الراهنة، خاصة الديمقراطية، تؤدي إلى التقارب بين التيارات الإسلامية، كلما غاب اختيار استخدام القوة. ولكن المرجعية الحضارية العربية الإسلامية، ليست مرجعية أحادية، بل تمثل إطارا عاما يشمل العديد من البدائل والاجتهادات السياسية، والتي لم تتبلور بعد. ونتصور أن المطلوب من الحركات الإسلامية أن تتفق فيما اختلفت حوله، وتختلف في ما اتفقت عليه. ونقصد من ذلك أن الحركات الإسلامية تحتاج لتأسيس رؤيتها عن المبادئ الحاكمة لتصورها السياسي، أي المبادئ الدستورية للمشروع السياسي المستمد من المرجعية الحضارية والدينية للأمة. وهو الجانب الذي اختلفت حوله عبر تاريخها الطويل. وثم يكون عليها بعد ذلك تقديم رؤى سياسية متباينة داخل هذا السياق الأساسي المتفق عليه. وهذا في الواقع هو الوضع السياسي السليم، والقائم على دستور وقواعد متفق عليها، وتنوع داخل إطار هذا الاتفاق. ومن خلال تأسيس رؤية حضارية سياسية، وتحديد تباينها وتعددها الداخلي، يمكن تأسيس العمل المشترك بين التيارات الإسلامية، والتي لم تشهد تعاونا بالقدر اللازم والضروري. [email protected]