مرت مصر طوال تاريخها الطويل بفترات عصيبة شكلت في لحظات معينة ما يشبه مفترقات طرق صعبة تاهت فيها بعض الحدود و المسافات و توزعت لدى آخرين الولاءات و الإنتماءت و تضاربت في أحيان كثيرة الاجتهادات و تناقضت فيها المصالح إلى حد المشاجرات . و برغم ذلك كله ظلت هناك كتلة حيوية رئيسة مثلت التيار الغالب في نهر الحياة السياسية و الفكرية في مصر و كانت هي طوق النجاة منذ أن بدأت الرياح الشديدة تقتلع الثوابت الثقافية و الحضارية و المسلمات المصيرية لهذا البلد .تعددت هذه المواقف في تاريخنا المعاصر كثيرًا بدء من الصدام الفكري و الثقافي في زمن الحملة الفرنسية على مصر مروراً بحالة الصدام السياسي و العسكري بين الجيش و الشعب بزعامة أحمد عرابي من ناحية و الخديوي توفيق و الانجليز من أخري . ثم إلى ثورة 1919 ثم معركة الدستور ثم فساد الملكية و قيام الجيش بالانقلاب العسكري بزعامة عبد الناصر و توغل الفكر القومي داخل العقلية الحاكمة في مصر. ثم بدأ الصدام الممتد حتى الآن و ذلك منذ إعلان الرئيس السادات لإنتهاج سياسية الانفتاح الاقتصادي عام 1974 ثم بزيارة القدسالمحتلة في نوفمبر1977 و بداية مسيرة التسوية السياسية للصراع العربي الاسرائيلى . و الشاهد الرئيس إن التحديات التي واجهت البلد كانت يقف لها دائما التيار الحيوي الرئيس في البلاد . فهل مازالت طاقة التحدي و الاستجابة في مصر الآن قادرة على صياغة مشروع سياسي وثقافي شامل يجمع بين أساليب التفاعل مع متغيرات العصر من جهة و الثوابت المصيرية لهذا البلد . إن المدقق في حياتنا السياسية و الثقافية ناهيك عن السلوك الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة يجعلك تشعر بالقلق مما وصل إليه هذا الخطاب سواء في الصياغات أو الطموحات و أيضا الاندفاعات و ما يحمله ذلك كله من مخاطر حقيقة على الكيان الاجتماعي و الثقافي للبلاد. خاصة في ظل وجود مخاطر حقيقة من المشروعات الدولية و الاميريكية و الصهيونية التي لا يخفى أصحابها أهدافهم الحقيقة التي اقل ماتوصف به إنها تخاصم وجودنا ومشروعنا سواء على المستوي القومي أو الدولي .و الحقيقة إن الخطاب السياسي و الثقافي المصري يعانى منذ سنوات بعيدة من حالة قطعية وخصام مع الأخر , بل و أحيانا يصل خطاب البعض إلى حد البحث عن حليف خارجي لدعم موقفه و مركزه في مواجهة مخالفيه و معارضيه المحليين . و الدليل على وجود هذه الحالة هو نمط المفردات المستخدمة و حالة الشجار الدائمة بين مختلف التيارات الثقافية و السياسية في البلاد و التي وصلت إلى حد التخوين للبعض و الاتهامات بالعمالة و المزايدة على أحلام البسطاء و أمالهم إضافة إلى مايخلفة هذه النوع من الخطابات إلى التواتر النفسي في المجتمع بين مختلف الجماعات الثقافية و السياسية في البلاد . إن تعدد أنماط و مستويات الخطاب السياسي و الثقافي في مصر كان من الممكن أن يكون ظاهرة صحية في المجتمع المصري , ولكن نظرة فاحصة على مستوي الخطاب السياسي و الثقافي في مصر . نجد أن الخطاب يميل إلى درجة قاسية من الحزبية , سواء في لغته المستخدمة أوتوجهاته و المصالح الكامنة خلفه والتي من طبعها إنها تثير القلق و الشك . و لقد ظهر هذا التعدد داخل النخبة الثقافية و السياسية في السنوات الأخيرة حول الموقف من عدة قضايا جوهرية مثل الصلح مع إسرائيل و التطبيع معها , و العلاقات مع الولاياتالمتحدة , قضية التوريث , حلول للمشكلات القائمة في البلاد منذ فترة طويلة مثل التعليم , البطالة , الفوارق الطبقية التي استفحلت في المجتمع المصري منذ عصر الانفتاح و حتى الآن , التراجع الكبير للغة العربية و آدابها أمام اللغات الأخرى . و لايخلو الأمر بالطبع من خلافات و اختلافات حول الكثير من القضايا الفرعية الأقل شأنا . و إذا انتقلنا من هذا المستوي من الاختلافات فإن هناك دوائر أخري من الجدل و التشابك و تصل إلى حد الشجار بين تيارات ثقافية و سياسية أخري تتمثل في : 1- الخطاب الثقافي و السياسي للرأسمالية المصرية ورجال الأعمال في مواجهة دعاة الاشتراكية و إيجاد دور اكبر للدولة. 2- خطاب التيار الداعي للسلام مع إسرائيل و التطبيع معها في مواجهة تيار معارض لهذا التوجه. 3- الخطاب الداعي لدولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية في مقابلة خطاب التيار اليساري و العلماني و أنصار الدولة المدنية . 4- خطاب مثقفي المعارضة و رموزها السياسيين على اختلاف تياراتهم في مقابلة خطاب حكومي قوي لدرجة انه يحكم عليها بالموت أو النفي و اعتبار إن الحكومة على صواب في كل ماتفعلة . 5- الخطاب الديني الإسلامي و يقابله خطاب التيار الديني المسيحي و اللافت للنظر إلى كثرة القضايا محل الخلاف بين دوائر الخطاب الثقافي و السياسي في مصر و ذلك بسبب التغيرات الكبيرة التي شاهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة. بحيث لم يسمح الوقت بالتقاط الأطراف المتشابكة لأنفاسها , و مراجعة أفكارها و نتائج مايجري في الواقع كل ذلك أدي في النهاية إلى تحول الخطاب لكل مستوي أن يكون صدي صوت لنفسه أو داخل دئراته و لاينتظر من الأخر أن يرد أو أن يفهم . وهكذا تحول الحوار إلى شجار و تحول الشجار إلى اتهامات متبادلة و يحمل في اغلب الأحيان دعوة لاغتيال الآخر سواء مادي أو معنوي . إن تحول الخطابات السياسية و الثقافية في مصر من التعددية و التنوع المطلوب إلى مستوي التعنت و التشرذم أدي إلى غياب التيار الرئيس المتدفق في نهر الحياة السياسية و الفكرية و الموجود طوال تاريخ مصر المعاصرة .فإن المسائلة تستدعى وقفة من جانب كل المخلصين لهذا البلد و المنتمين لدوره التاريخي و الحضاري. إننا بعيداً عن الاتهامات أو افتراض سوء النية فإنني أدعو إلى إيجاد قواسم مشتركة بين كل التيارات الفكرية و السياسية في مصر . و لنتفق على الحد الأدنى من الثوابت المصرية و العربية و حتى على مستوى القضايا الفرعية التي يمكن أن تقبل داخل أوساط النخبة الثقافية و السياسية المصرية , و لايمنع بعد ذلك أن يكون هناك اختلاف في التفاصيل و الاجتهاد بعد ذلك في الرؤى والحلول للمعالجات العملية . هذا هو الحل الناجح لإضراب 6 ابريل وأي إضراب ممكن أن تقوم به الجماعات الثقافية و السياسية في البلاد. و بعيدًا عن فشل الإضراب أو نجاحه فقد كانت حالة الإضراب تعكس الأزمة الحقيقة للخطاب الثقافي و السياسي في مصر. و الآن أتسال هل هناك من يستطيع أن يتبنى هذه الدعوة لإيجاد كلمة سواء بين جميع مثقفي و وسياسي مصر.أو أن تطرح كقضية حوارية داخل المجتمعات السياسية و الثقافية في مصر للوصول إلى أفضل التصورات لجمع كلمة النخب الثقافية و السياسية المصرية حول قضاياها المصيرية. و لكي يكون الإضراب القادم هو إضرابا للتيار الوطني المتدفق دائما في شريان الحياة الوطنية المصرية.