أنا شخصيا أشعر بالدهشة مما يحدث في مصر، هذا شعب لا يمكن "ضمانه في الجيب"، ولا يمنح تفويضا على بياض طوال الوقت ، وكما أن هناك فئات ترقص وتزغرد ، هناك فئات تقاطع وتصمت ، وكما أن هناك مؤيد، هناك معارض ، وكل فريق له منطقه وحجته ، ومن يبتهج بالانتخابات فلديه أسبابه، ولا اعترض عليها ، ومن يعطيها ظهره فلديه مبرراته، ولا أحتج عليه ، دعوت لعدم مقاطعة الانتخابات، وكان حديثي موجها لخصوم السلطة ظنا مني أنهم وحدهم سيكونون في هذا المضمار، ولن يظهر أثرهم وسط طوفان الخروج والتصويت، لكن الصورة في مجملها لم تكن كذلك، فقد ظهر أن آخرين لارابط بينهم وبين الإخوان، بل ربما على خلاف كبير معهم رأوا أن تلك العملية لاتعنيهم فقعدوا في بيوتهم رافعين في هدوء إشارات حمراء لمن سيكون صاحب القرار بأن انتبه، نحن هنا من دون ضجيج، لا في الشارع، ولا عبر الشاشات، فليس كل شيئ يمكن أن يكون طوعك وفي يمينك وكما تهندس وتريد ، هذا التحذير كان ضروريا حتى لايظن أحد مهما ارتفع نجمه، واحتفى به الإعلام صباحا ومساء وفي الظهيرة ، أنه امتلك واحتكر بلد كبير عظيم في حالة ثورة فتسول له نفسه الاستبداد به مرة أخرى. شعب مصر خليط من أفكار وقناعات واتجاهات وأمزجة، ولن يكون جيدا استمرار توزيع اتهامات التخوين والعمالة على كل من يرفع "كارت أحمر" على طريقته للسلطة، فمن بين من ستيفونهم إلى خانة أعداء الوطن المزعومين من كانوا في نفس معسكر السلطة مستجيبين لنداء الخروج تحت شعار أنقذوا البلد. نعم هناك كتلة سلبية لاتعير الانتخابات أدنى اهتماما وتراها ألعابا أكروباتية، وهذا ليس صحيحا بالمطلق، والعذر أنهم مازالوا متأثرين بماض طويل من الاستهانة بإرادتهم ، لكن تظهر اليوم كتل أخرى تعرف وتفهم ، لكنها لاتريد احتكارا جديدا للوطن حتى لو عاد عبدالناصر نفسه من قبره بجسده، فهو نفس الزمان يتتابع، لكن تعاقب اليوم ليس كالأمس، وما كان مقبولا في مرحلة صار العقل والواقع لايستوعبانه في مرحلة أخرى، وغالب هذه الكتل أو الجماعات أو الكيانات التي ليس بالضرورة أن تكون منظمة، بل يجمعها رأي عام واحد، وهي منثورة في ربوع مصر، هم من أصحاب الأحلام الوردية لبلد يتأسس وفق النماذج الناجحة سياسيا واقتصاديا سواء كانت في الغرب أم الشرق، وهم عدة وعتاد المطالبة بالتغيير، وهم من قادوا التغيير وملأوا الميادين بالثورة، وهم من لازالت قلوبهم مشتعلة بالثورة البيضاء النقية، وهم لن يسلموا حلمهم ووطنهم لأي شخص تُنسج حوله روايات التعظيم الأسطوري والهبات الإلهية في ردة عنيفة لمفاهيم العصور السحيقة في واقع تتساقط فيه القداسات المزعومة والديكتاتوريات المنتفخة. عندما نتحدث عن شعب من 90 مليون نسمة منه 54 مليون ناخبا وناخبة فمن المستحيل ضبط هؤلاء جميعا على موجة واحدة ونغمة واحدة وخطاب واحد ورقصة واحدة حتى لو فعلت ذلك "بشرة خير"، فهي تبقى عملا من صنع أصحابه ورؤيتهم هم، وحتى لو رقص آخرون في الواقع على نغماتها، فليس كل المصريين يفعلون ذلك، أي يكونون نفس الفرقة الموسيقية، وهذا التنوع هو الأصل في المجتمعات والحياة، وهذا التنوع في السياسة والمواقف والتوجهات الذي يتبدى اليوم هو نتيجة مهمة لمصر بأن هذا الشعب لايمكن أن يتم سوقه كالقطيع، ولا حبسه كله في قفص من الكلمات الناعمة والعواطف الجياشة، ولا يمكن إعادته إلى حضن الحاكم الفرعون الذي لايرينا إلا مايرى، والذي يعرف مصلحتنا أكثر منا، والذي هو الأب للجميع. فليفز السيسي، فهو صاحب الحظوة في ذلك المهرجان، لكن هل قرأ رسالة الانتخابات بصراحة ووضوح دون أن يقع في أسر نفاق المنافقين وتدليس المدلسين الذين يفسدون الحاكم قبل أن يحكم وبعد أن يحكم ويزينون له كل السوءات فيكون مصيره في النهاية أليما؟. هل سيدرك السيسي أنه بجانب كتلة المقاطعة المعروفة هناك كتلا أخرى منظمة من دون اتفاق مصدومة من واقع مابعد 3 يوليو ولاتراه جاء بأفضل من السابق والأسبق عليه، وأن الانشائيات والتمنيات شيء، والواقع شيئ آخر مختلف تماما ؟. هل يدرك أن هناك حالة من عدم الرضا لدى فئات عديدة لايمكن إخفائها بوصلات الرقص بمن فيهم الخصم الصريح الذي لايمكن إلغاؤه أو القضاء عليه بأساليب الأمن، خصوصا وهو رجل المخابرات الذي يحلل كل كلمة وحرف وإشارة وإيماءة و"يفهما وهي طايرة" كما يُقال؟. إذا كنت قدرنا فلتكن رئيسا مختلفا عما كنت عليه طوال الأشهر التي خلت، فأنت اليوم ستصير حاكما لمن رقص لك، ولمن رفض مجرد التمايل، لمن معك، ولمن ضدك، ولن تستطيع الحكم والشعب منقسم حولك وبسببك، فكيف ستحل هذه المعضلة حتى تتمكن من حل معضلات مصرالأخرى؟. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.