لو أقسمت لك منذ ثلاثة أشهر بأغلظ الأيام أن الحزب الوطني سيصبح محظورًا، وأن جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة سابقًا) ستمارس عملها بمنتهى الحرية في إطار قانوني علني، لكان لك الحق أن تعتبرني أستخف بعقليتك، أو أن مسًا من الجنون قد أصابني، ولكنه مالك الملك، إذا أراد شيئًا .. وأخيرًا تنفس الجميع الصعداء، وتحقق حلم كنا نظنه يومًا صعب المنال، أراد الله أن يكون النصر في جيلنا وبأيدينا، وأن نشاهد كل مطالب الثورة يتم تنفيذها يومًا بعد الآخر، محاكمة الرئيس وأبنائه، حل الحزب الوطني، تقديم جميع رموز النظام السابق للمحاكمة، كل ذلك حدث من خلال تطبيق صارم للقانون، وبدون القيام بإجراءات استثنائية خاصة، لنبدأ الآن المرحلة الأصعب في تاريخ مصر الحديث، مرحلة "البناء" التي لم نتعود عليها، كان شعورنا الدائم بأنه ليس وطننا، وكان الهروب منه هو أسهل الطرق، كان البعض يمارس النقد لكل ما في المجتمع، والبعض الآخر يكتفي بالمشاهدة ومصمصة الشفاه، ولكن أن نصبح نحن المسئولين عن إعادة بناء الوطن، وعلاج كل السلبيات التي خلفها التدمير المستمر طوال 30 عامًا، فيجب أن نعترف أن الأمر ليس بالهين، ويحتاج إلى عزائم الرجال، لم يعد يكفيك البحث عن مقعد متميز في مدرجات المشجعين، حتى تصفق للمحسنين أو تمارس هواية النقد للمخطئين، من دون أن تشعر أنك صرت مسئولاً عن كل شبر في الوطن، وأصبحت مطالبا بحل أي مشكلة أو سلبية تظهر أعراضها بدءًا من الآن. منذ ثلاث سنوات بالضبط كتبت في نفس المكان عن تجربة قرية "تفهنا الأشراف" في التنمية الذاتية، وهي تجربة نحتاج بشدة إلى استدعائها الآن، لأنها تقدم النموذج الأبرز في تحمل المسئولية، والمبادرة الذاتية، وتحقيق المستحيل، تجربة نجحت وقدمت ثمارها رغم التضييق المتعمد من النظام، والسعي لتشويه كل مبادرة نجاح، ولكنها الإرادة الحقيقية التي حققت ذلك التميز، ويمكن أن تحقق الآن أكثر من ذلك، في ظل مناخ الحرية، وعدم وجود أي حجة للتقاعس أو التقصير. هل تذكرونها؟ تلك القرية التي تقع في أغوار مركز "ميت غمر" بمحافظة الدقهلية، قرية فقيرة صغيرة تقل عن خمسمائة فدان، حتى العام 1966 لم يكن بها شخص واحد في أي مرحلة تعليمية، وكانت معروفة بتصدير عمال التراحيل للمناطق المحيطة، إلى هنا تبدو الأمور عادية.. ولكنها اختلفت تمامًا بعد العام 1984 الذي شهد بداية الملحمة، عندما قام مهندسان من شباب القرية بعمل مزرعة للدواجن، حيث خصصا نسبة 10% من الربح لإنفاقها في وجوه الخير وسمياه "سهم الشريك الأعظم"، وعندما نجح المشروع الأول قاما بعمل مزرعة ثانية ثم ثالثة، لتزيد نسبة الأرباح التي تدخل نفس الوعاء إلى 30 %، ثم جعلا كل أرباح أعمالهم الجديدة لله. في تلك الأثناء تفتق ذهن أحد الشابين إلى فكرة تطوير القرية من خلال العمل الجماعي، فتم عقد اجتماع عام لأبناء القرية، وأعلنا عن فكرة إنشاء مركز إسلامي متكامل بالبلدة يشارك في إنشائه الجميع كعائلة واحدة لها قيادة جماعية، وتم اختيار المهندس" صلاح عطية" صاحب الفكرة والأب الروحي للقرية لقيادة المركز، كانت رؤية ذلك الرجل أن تقدم الأفراد والشعوب والأمم لا يتم إلا بالعمل والتعاون والتكافل، فوضع أمامه النموذج النبوي للدولة حين كان يعطى الطعام للفقير، لا ليأكله.. ولكن ليعينه علي العمل، ويصبح منتجًا في مجتمع المنتجين، فبدأت عملية حصر السكان والفقراء، ثم جمعت الزكاة من الجميع حسب نشاطهم، فالمزارع يعطي من محصوله، والتاجر يعطي مما لديه من سلع، حتى الأطباء.. قام كل منهم بمتابعة حالات محددة من مرضى القرية الفقراء كزكاة عن عملهم، وعند إنفاق الزكاة لم يعط الفقراء أموالاً، لأن ذلك لا يساهم في القضاء على الفقر، وإنما أصبح الجميع منتجًا، فتم توزيع " 40 شاة" على الأرامل في السنة الأولى، لتزداد عامًا بعد عام، ويحصل كل فقير بعد ذلك على "بقرة"، وستة قراريط زراعية. تمكنت "تفهنا الأشراف" في فترة قياسية من القضاء على الثالوث اللعين، الجهل والفقر والمرض، ولم يعد في القرية طفل بلا تعليم، أو مريض يفتقد العلاج، أو عاطل لا يجد العمل، لدرجة أن موارد الزكاة زادت عن حاجة القرية وبدأت تتجه للصرف على الحالات المستحقة في القرى المجاورة، كما استخدمت حصيلة أرباح المشاريع في إنشاء حضانة كبيرة يدرس فيها الأطفال بالمجان، ثم معهد أزهري ابتدائي، ثم معهد أزهري إعدادي للبنين وآخر للبنات، وتلاهما معهد أزهري ثانوي للطلاب وآخر للطالبات، ومع زيادة الأرباح قام الأهالي بالاتصال بالشيخ جاد الحق - شيخ الأزهر الراحل- للحصول على موافقته لإنشاء كلية للشريعة، تكلفت 5 مليون جنيه، وتم إنجازها في 13 شهرًا ، لتبدأ الدراسة بها عام 1992 ، ثم تصبح بعد ذلك فرع متكامل لجامعة الأزهر ومدينتين جامعيتين . امتد الأمر بمشاريع الخير إلى إقامة محطة للسكك الحديدية ، ومشروع للصرف الصحي، ومستشفى تأمين صحي، وزراعة ألف نخلة مثمرة، وتم إنشاء مجمع للخدمات بالقرية من أربعة طوابق يضم سنترالاً، ومشغلاً لتعليم الفتيات، ومكتبة عامة، ومقرًا للجنة المصالحات، كما تم إنشاء مصنع للأعلاف والمركزات، ومجزر آلي للدواجن، ليقترب حجم الاستثمارات من 50 مليون جنيه، ولكن الأجمل أن أحلام أبناء القرية لا تنتهي، بل تتجه للتزايد، بعد أن قرر الأهالي الدخول في مشروعين كبيرين كل عام، مثل إتمام المعهد الإعدادي والثانوي الأزهري للمتفوقين، بهدف تكوين نواه للداعية العالمي، لتحمل مسئولية نشر الدعوة في أفريقيا وأوروبا، وإدخال صناعة السجاد القرية، من خلال الإنفاق مع أحد المصانع المتخصصة في صناعة السجاد اليدوي، لتعليم الفتيات صناعة السجاد من البيت لحساب المصنع، بالإضافة إلى إنشاء "تفهنا الأشراف الجديدة" التي يتم استصلاحها وتعميرها لتصبح امتدادًا للقرية. إذا كانت الثورة المصرية قد قدمت النموذج الأروع الذي أبهر العالم، فإن الواجب علينا الآن أن نثبت للجميع جدارتنا، ونظهر الجانب المتميز من ملامح الشخصية المصرية في مرحلة البناء والتنمية، نجحت "تفهنا الأشراف" في الزمن الصعب، وضربت المثل في الإرادة والبذل، والالتفاف حول القيادة المخلصة الواعية، لتثبت بالدليل العملي إمكانية فرد واحد لإحداث التغيير، طالما توفرت لديه الرؤية السليمة والإرادة، والصلاح الذي يكسب ثقة الجميع ، صدقوني.. عندما يصبح البذل والإنتاج شعارنا، ويصير العمل التطوعي عشقنا، فسوف نشاهد في كل يوم مئات النماذج مثل "تفهنا"، وسيخرج منا ملايين الرجال الذين يقهرون المستحيل. [email protected]