قناة الجزيرة تلك 'الفكرة' الاستثنائية التي لم يتوقع احد ان تنبثق من داخل احد قصور 'المخزن' العربي، إذ لا عهد لنا بهواء داخل تلك القصور تتنفسه أفكار الحرية والعدالة، بل ما عهدناه وألفناه هو محاربتها لمثل تلك الأفكار المشاغبة قبل ولادتها، وتكميم وتقزيم وتقليم ألسنة أصحابها وكسر أقلامهم أينما ثقفوا لكي لا تتسرب عدوى أفكارهم السامة بين المواطنين. لكن 'فكرة الجزيرة الاستثنائية' ولدت وترعرعت ورشدت في حضن قصر عربي قبل ان تخرج الينا فجأة بازغة كشمس مصيف حارقة، لتملأ الدنيا وتشغل الناس بتمزيقها لتابوهات الصمت العربي ونبشها المسكوت عنه في كواليس الأنظمة والقصور، وفي خفايا الساسة والسياسيين، محدثة حرائق سياسية في كل قطر عربي، وكأن 'علبة الكبريت' هذه كما سماها احد ضحاياها البارزين مازحا أو ساخرا، وهي تتمادى في 'غيها' ضد الأنظمة العربية والاستعمارية، في تماه غريب مع تطلعات شعوب فقدت حتى الأمل في الأمل والتطلع، كأنها بذلك تلعب دور نصير الشعوب المستضعفة المظلومة والمقهورة، تلك الشعوب التي بفضل 'علبة الكبريت' هذه بدأت تستعيد الإحساس والشعور والأمل في الحياة، لتصل أخيرا للوضع السوي لكل شعوب العالم ألا وهو الحق في الحلم والإرادة. فعلا أخيرا أصبح الشعب العربي 'يريد' وهب إنها لاحدى الكبر لهذه القناة المارقة وملاكها المغردين خارج سرب الأنظمة الرسمية، التي لا تؤمن بكرامة وحقوق الشعوب ولا تعنيها تطورات الأحداث العالمية من حولها، كل ما تؤمن به تلك الأنظمة وسدنتها هو ان قطعان الشعوب هذه يجب ترويضها أناء الليل وأطراف النهار على الطاعة العمياء بكرابيج الشرطة وفتاوى علماء البلاط 'وبتنوير' يومي من فيالق كتاب المخزن عبر 'الثكنات' الإعلامية الرسمية، التي خصصت لممارسة طقوس الدجل والنفاق والتملق، وقد أتقنتها لعمري أيما إتقان. في عتمة ليل عربي بهيم لا توحي مؤشراته بصبح قريب، كان 'صناع' الفكرة الاستثنائية هذه (الجزيرة) يبصمون عليها باللمسات الأخيرة بعد توفير المستلزمات المادية واللوجستية في استثمار ضخم غير مسبوق في أروع العقول الإعلامية العربية، كل ذلك لضمان حصاد استثنائي، حصاد هم آخر من يستفيد من زرع بذره وينعه. فها هي الشعوب العربية تقطف ثماره اليانعة شعبا بعد شعب (أو زنقة ... زنقة... على طريقة ملك ملوك افريقيا) في حين تواجه 'علبة الكبريت' وملاكها أشرس الحملات الإعلامية والسياسية التي ترقى لمستوى التصفية الجسدية لطاقم 'العلبة' والتهديد بنسفها على من فيها، فيما تحاك مؤامرات استفزازية ضد ملاكها، ربما تهدد كيان دولتهم 'الصغيرة '(كما حدث سابقا..) تلك الدولة التي تستفز نظيراتها العربيات بلعب دور إقليمي ودولي لا يتناسب مع حجمها الجغرافي، وكأن عطاء ومبادرات الدول أو حضورها في المحافل الدولية يجب ان يتناسب مع اتساع رقعتها الجغرافية وتعدادها السكاني. استسمج أهل الجزيرة في الكناية عنها 'بعلبة الكبريت' وفاء لنكتة ذلك الرئيس العربي المطرود الذي لا يستحق اليوم على شعبه إلا ولا ذمة ولا وفاء، والغريب حقا هو اكتشاف ذلك الزعيم لخطورة حرائق الجزيرة بدون ان يتوقع ان شرارة تلك الحرائق قد تجد طريقها إلى داخل القصور، ربما يصدق ذلك القول المأثور 'البلاء موكل بالمنطق' لا شك أنها نكتة غير 'مباركة'. والمفارقة المثيرة حقا هي انه في الوقت الذي تتماهى وتتناغم هذه القناة مع نبض الشارع والأمة، مسخرة إمكانيات مادية هائلة، بل وأكثر من ذلك مسخرة طواقم إعلامية مهنية تحمل أرواحها على اكفها لنقل الحقيقة المحظورة في هذا البلد أو ذاك في هذا الوقت المفصلي تشن حملات دعائية وتبذل جهود خطيرة لتكميم هذه القناة وترويع طواقمها بالطرد والإبعاد والاعتقال وحتى التصفية الجسدية، كما حصل مؤخرا مع الزميل الشهيد حسن الجابر على يد مرتزقة الزعيم الليبي المرعوب من شعبه، ولاستهداف حسن الجابر دلالته المزدوجة بين القناة وملاكها بحكم جنسيته القطرية. ولا شك ان الجميع تابع التصريحات الرسمية لأكثر من قائد عربي مؤخرا متهما القناة بتهم لا تستحق حتى التوقف عندها، وان كانت تكشف مستوى الرعب والانهيار لدى هؤلاء القادة. لكن المثير للدهشة والاستغراب هو ان تنبري أقلام إعلامية تصف نفسها بالجادة لتقول في قناة الجزيرة ما لم يقل 'مالك في الخمر'، وما استرعى انتباهي لدى كثير من كتاب العروش المرعوبة من غضب الشعوب هو اتفاقهم على اتهامات متناقضة تناقض الليل والنهار. فالجزيرة في نظر هؤلاء قناة غوغائية أسسها القطريون واسامة بن لادن وإسرائيل وصدام حسين والمخابرات الأمريكية والإخوان المسلمون وإيران احمدي نجاد وحسن نصر الله. ويرى هؤلاء الكتاب ان عجينة الأطراف المتناقضة هذه أنشأت القناة لأغراض خطيرة تستهدف كيان الأمة العربية والإسلامية، وليت شعري أي استهداف للأمة اخطر من قمع وتجويع وترويع وتدجين شعوبها؟ لكن كتابنا المرموقين لم يكلفوا أنفسهم عناء طرح سؤال بديهي هو ماذا يجمع مجلس الإدارة هذا ؟ ولم يكشفوا لنا تاريخ ومكان انعقاد جلساته الدورية والطارئة. طبعا هذه الاتهامات ولدت مع انطلاقة القناة قبل ما يزيد على عقد من الزمن لكنها اليوم تستفحل بسبب نقل القناة لمشاهد الثورات العربية وفضحها لردة فعل الحكام الدموية على شعوبهم. ذكرتني هذه الهجمة الشرسة ضد الجزيرة بنقاش إعلامي حضرته قبل سنوات مع لفيف من كبار الإعلاميين العرب ممن كنت اسمع واقرأ لهم في صغري وتمنيت لو احتفظت لهم بصورهم المثالية في خيالي. لقد انصبت كل مداخلاتهم حول انتقاد الجزيرة وطاقمها ومموليها، وكان تدخلي نشازا في تلك السهرة حيث اكتفيت بطرح سؤال هو 'كيف نوفق ما بين كل هذه الآراء المتباينة والأصوات التي ترتفع من حين لآخر في الغرب مطالبة بإرغام قطر على إغلاق الجزيرة؟ ولأنني لم أتلق من زملائي بل أساتذتي إجابة مقنعة تمنيت عليهم أن نترفع عن مثل هذا الطرح الذي يقدح فينا أكثر من القناة، وإذا لم نحتف ونفتخر بها كبارقة حلم في واقعنا العربي البائس فإننا على الأقل صونا لأنفسنا يجب ألا نقف في وجه التيار. ولان كتاب العروش المكلومة هذه الأيام يكثفون حملات السب والقذف ضد القناة فإنهم في نظري مطالبون بالإجابة على السؤال أعلاه وتفكيك تناقضاته للشعوب العربية لكي تتضامن معهم ضد هذه القناة التي تسقط آخر ورقات التوت عن جسد أنظمتهم المهترئة. فبأي منطق تكون لأمريكا علاقة بهذه القناة، وهي القناة الأكثر إزعاجا وإحراجا للأمريكيين في العراق وأفغانستان، حيث ظلت تلاحق آلة الحرب الأمريكية كاشفة فظائعها وفضائحها وانهزاماتها وإخفاقها الذريع في كل ما وعدت به الشعب الأمريكي في حججها التبريرية التي تسبق كل طبخة موت تحضر لتطعم لشعب عربي أو إسلامي. ودفعت الجزيرة جراء ذلك ضريبة قاسية تمثلت في قصف مكاتبها وتصفية واعتقال مراسليها لكن ذلك لم يزدها إلا إصرارا على مواصلة مهمتها الإعلامية النبيلة. فاضحة ما وراء الكواليس نابشة مكنونات تجاعيد وقسمات الوجوه الجهنمية لرامسفيلد وبوش وشارون ورايس، وطفيلي البلاط توني بلير. والجزيرة الاسرائيلية، كما يصفها كتاب العروش، هي التي شاهد العالم كله تغطيتها للأحداث اليومية في الأراضي المحتلة وتغطياتها الخاصة للانتفاضات الشعبية المتعددة ولأحداث جنوب لبنان وغيرها، ولا اعتقد أنها خلال تلك الأحداث كانت توزع الزهور على الجيش الإسرائيلي وتبث له الأغاني الحماسية شحذا لمعنوياته العسكرية، كما لم تتوج القناة بأوسمة الشرف الإسرائيلية على تغطيتها لمعاناة الشعب الفلسطيني الأعزل. اما جزيرة الإخوان المسلمين وصدام وبن لادن ونصر الله فتلك معزوفة أمريكية واسرائيلية يحلوا لبعضنا ترديدها استمتاعا وانبهارا. ولكي نخرج من هذه المهاترات العقيمة أرى انه لا معنى ولا جدوى من الامتناع عن التعاطي مع الحقائق كما هي، فالجزيرة كما هو معلوم للجميع مشروع إعلامي مسجل بماركة قطرية بحتة لا غبار عليها، ودولة قطر كما تتحمل أعباء هذا المشروع المادية الباهظة، تتحمل أيضا ضريبته السياسية الأكثر إحراجا وخطورة، وقد تكون قطر أنشأت هذا المشروع الإعلامي لأجندات خاصة تخصها كدولة ولها الحق كل الحق في ذلك. لكن ما يهمنا هو مدى استفادتنا كشعوب عربية مدجنة من هذا المشروع؟ هل خدمنا أم اضر بنا؟ وبعبارة أخرى ماذا لو توقعنا ان هذا المشروع الإعلامي لم يوجد أصلا في عالمنا العربي؟ كيف لنا ان نتوقع مستوى الحريات ومستوى الوعي ومستوى التطور الذي حصل في نظرة الحاكم العربي لشعبه؟ ألم تصبح مصدر إزعاج حقيقي لكل الحكام؟ ألم يصبح الحكام 'يفهمون' ألم نراهم يستنجدون شعوبهم لمنحهم شهورا فقط لترتيب الحقائب والأوراق؟ ألم يقسموا بشرفهم على عدم الترشيح والتوريث؟ ألم يصرح 'معمرهم' 'لجرذانه' انه لو كان يملك السلطة لرماهم بها؟ ألم يتفق كل اولئك القادة في هجومهم على الجزيرة دون غيرها؟ اعتقد ان الفضل في كثير من هذا الوعي الشعبي يعود للجزيرة، وان كانت هناك قنوات أخرى ظهرت واسهمت إلى حد ما، لكن الجزيرة كانت سباقة في دغدغة مشاعر الشعوب وزعزعة عروش القادة، وهذا ما تسجله الشعوب العربية في وجدانها للجزيرة وملاكها. وكما يتضح من عنونتي لهذه المقالة لست هنا للدفاع عن الجزيرة لأنها كما يقول المثل الموريتاني 'أكثر من نفسها' فلها كل القدرة على الدفاع ان وجدت نفسها في قفص الاتهام، كما لا أدافع عن القطريين ولا اتملق لهم ولا لغيرهم لانني ببساطة 'لغير رسول الله لا أتملق' كما يقول داعية افريقي عظيم في إحدى روائعه الشعرية. بل ما اسطر هنا هو الحقيقة كما تبدو لي وقد أكون مخطئا، ولا يعني انحيازي للجزيرة وتنويهي بملاكها رضاي المطلق عن سياستها التحريرية أو عن منهج ملاكها السياسي. ولكي أكون أكثر أمانة مع نفسي ومع قرائي الكرام أجدني مضطرا للتأكيد على ان هناك أمورا كثيرة تعجبني في القطريين وتستحق مني الإشادة والتقدير، وفي طليعتها طبعا هذا المشروع الإعلامي الرائع وغيره، لكن بكل تأكيد ليس من بينها استضافة قاعدة السيلية الأمريكية، ولا من بينها غياب المؤسسات الديمقراطية في قطر، وان كان لهم رأيهم الخاص في التدرج في بناء المؤسسات الديمقراطية حسبما فهمت من محاضرة حضرتها لرئيس وزرائهم قبل فترة. أما ما لا يعجبني في الجزيرة فيتمثل في ملاحظات مهنية بحتة لا أرى الظرف مناسبا لبسطها لكنها قد تكون موضوع مقال لاحق. محمد عبد الرحمن محمد فال إعلامي موريتاني القدس العربي