لست من دراويش الناصرية ولست من العائشين في الماضي, ولكنني أكتب هذه السطور انتصارا لفكرة مصر/كبيرة ومحددات الأمن القومي و بيقين فإن التأمل واجب. والتفكير ضرورة فيما بثته قناة الجزيرة القطرية لمدة شهرين في حلقات استغرق كل منها خمسين دقيقة من برنامج( شاهد علي العصر) الذي يقدمه الأستاذ أحمد منصور, وكان ضيف تلك الحلقات هو السيد عبد الكريم النحلاوي(84 عاما) قائد الانقلاب الذي أفضي إلي الانفصال بين مصر وسوريا(28 سبتمبر1961), وسقوط دولة الوحدة( الجمهورية العربية المتحدة). وأنا أعرف أن بعض قوي الشوارعيزم في مصر( الطابور الخامس في الإدارة والمتمولون من رجال الأعمال وإرهابيو الصوت والقلم من الإعلاميين والصحفيين المأجورين) يروقهم كثيرا أسلوب قناة الجزيرة في ضرب ركائز الدور, والتأثير المصريين, ويرونه من جهة نسفا لأيقونة جمال عبد الناصر الذي عذبهم حضوره الشعبي والأخلاقي حيا وميتا, كما ينظرون من جهة أخري إلي أسلوب تلك القناة باعتباره مكملا لفكرة إثارة الفوضي, وضرب النظام كما يريد أصحاب الاجندات الاجنبية, الذين تعمل الجزيرة القطرية, وقوي الشوارعيزم المصرية في خدمتهم. الموضوع هذه المرة أكبر بكثير من مجرد تنفيذ التكليف القادم من وراء البحار بإثارة الفوضي, وتقويض النظام, وضرب المصريين بالشكوك والريب في تاريخهم الوطني, وفي مقاصد القيادة خلال عصر بأكمله, وإشعارهم بعدم جدوي كل ما آمنوا به, واعتنقوه, وصدقوا فيه لعهود وعقود. الموضوع يتعلق بتفجير وتدمير الصيغة التي مايزال الأمن القومي العربي يقوم عليها, أعني مثلث( مصر السعودية سوريا). كيف.. وماهو الهدف ؟! حلقات( شاهد علي العصر) كانت سباقا بين الأستاذ أحمد منصور, والمقدم عبد الكريم النحلاوي لوز السوريين علي مصر, وتحريض مصر علي السعودية. أي نعم.. لعبت المملكة العربية السعودية( بالاشتراك مع المملكة الأردنية الهاشمية) دورا في دعم انقلاب الانفصال, واعترف بذلك الملك سعود بن عبد العزيز نفسه, حين ذكر أن الرياض أنفقت12 مليون جنيه استرليني علي الانقلاب, ولكن ذلك كان في سياق زمني( إقليمي ودولي) مختلف, وتمت معادلته علي أية حال بدحول القوات المصرية إلي جنوب شبه الجزيرة العربية لحماية ثورة اليمن ضد الإمام حميد الدين(26 سبتمبر1962), وقد زال الكثير من أسباب الاحتقان بين مصر والسعودية بخلع جلالة الملك سعود عن العرش, ولجوئه الي القاهرة, التي استقبلته( بأوامر الزعيم جمال عبد الناصر) وأكرمت وفادته, كما انعقدت اتفاقية جدة عام1965 بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل منهية الوجود المصري في اليمن, ثم كان موقف السعودية المهم في مؤتمر القمة العربي في الخرطوم عام1968, وفي التحالف المؤدي الي حرب أكتوبر1973, وعلي نحو لاشي الكثير من أسباب الإحتكاك( المباشر) بين الدولتين, لا بل وسمح بتنسيق استراتيجي علي أعلي المستويات, وإن واصلت بعض الدوائر الإعلامية والسياسية السعودية هندسة حملات كاسحة, حاولت ضرب جمال عبد الناصر, وسياساته وأفكاره علي نحو فيه لدد شديد اختلطت فيه رغبة انتقامية مريرة من الشخص, مع محاولة لحوح للتمدد علي حساب مصر سياسيا وثقافيا وإعلاميا. علي أية حال.. نحن الآن في زمن آخر. والعلاقة المصرية/ السعودية ضرورية للطرفين وللنظام العربي بأكمله, ومن هنا فإن دخول قطر لإحياء مناخ إنقلاب1961 في دمشق عبر قناتها( الجزيرة) وأداءات الأستاذ احمد منصور العصبية تجاه الزعيم جمال عبد الناصر, واستعداده المستمر لضرب تلك المرحلة خدمة لأطراف أخري) كان عملا يستهدف بالدرجة الاولي بعث الحزازات من جديد بين مصر والسعودية, أو إثارة العكارة في مناخ العلاقة بين البلدين في وقت تحتاج الأمة إلي التئام جهودها وتعظيمها. أما علي الضفة الأخري للنهر( أعني العلاقات المصرية/ السورية) فالموضوع أكبر وأعقد بكثير. إذ أن سوريا تظل من أقرب البلاد العربية إلي مصر, وتنهض الوشائج العاطفية الوثيقة بين الشعب السوري ومصر( حتي اللحظة الراهنة) دليلا متجددا علي أنها علاقة من الصعب جدا اختطافها أو تعديل مسارها, حتي مع بعض التوعكات التي يسببها اختلاف وجهات النظر في ملفات بعينها. وأذكر حين تورط الزعماء العرب في خطيئة مقاطعة مصر بعد مؤتمر قمة بغداد1979, أن الفرق الرياضية المصرية في ذهابها لتلعب في دمشق إن اقتضت ضرورة بعض الفعاليات الرياضية احيطت من جانب الشعب السوري بمشاعر ترحاب ومحبة غامرة, لا بل وشهد أبناؤنا من اللاعبين أن مؤازرة الجمهور السوري لهم كانت تشعرهم بأنهم يلعبون في القاهرة. لا توجد رابطة عاطفية بين مصر وشعب عربي كتلك التي تربط السوريين بنا. وبالمناسبة أنا لست من هواة تسبيب الظواهر بالعواطف فحسب, وإنما الضرورات الموضوعية والاستراتيجية التاريخية والمعاصرة تقول بأن علاقة مصرية/ سورية مستقرة, تفضي بالقطع إلي تقوية مركز كل منهما, وإلي وضع عربي أفضل بعامة. الاستاذ أحمد منصور, وقناة( الجزيرة), وقطر التي تشغلهما لايرون ذلك ولا يحبونه, ويعتبرون أن ضرب العلاقة المصرية/ السورية, واحدة من أولوياتهم المتقدمة, وصولا إلي إطاحة وضع مصر الإقليمي وتقزيمه, وتكريس معني( مصر/ صغيرة) بدلا من( مصر/ كبيرة), وهو ما تريده بعض القوي الدولية التي تحرك الدوحة, والتي تصمم وتمول مخططات قوي الشوارعيزم في القاهرة. ومن ثم فقد استخدم الاستاذ أحمد منصور كل قدراته المدهشة علي الكراهية, في تحريض الشعب السوري علي مصر,فقال في إحدي حلقات النحلاوي: قوبلت حركة الانفصال في28 سبتمبر1961 بالتأييد من كل الشعب والجيش ماعدا دوائر محدودة في أجهزة المخابرات.. الشعب السوري ده إيه ؟!.. يوم يريد حمل سيارة عبد الناصر في دمشق وتقبيل حذائه, ويوم يؤيد الذين انقلبوا عليه. ولما علق النحلاوي قائلا: إنه شعب واقعي.. أجابه الاستاذ منصور مواصلا: ليس شعبا واقعيا, وإنما هو شعب عاطفي بينضحك عليه!! ................ لا أظن أنني رأيت عملا إعلاميا يتسم بالتحريض كأداء وخطاب الأستاذ أحمد منصور في تلك الحلقات, والذي بلغ إحدي ذراه العالية جدا بتوجيه إهانات مباشرة للشعب السوري عقابا له علي محبته لجمال عبد الناصر, ومحاولة زجر ذلك الشعب ومنعه من تكرار التعبير عن مواقفه المحبة لمصر, وإلا كان في نظر منصور شعبا( بينضحك عليه). صحيح أن قناة الجزيرة والاستاذ أحمد منصور قدما حلقة في نهاية استعراض ذكريات عبد الكريم النحلاوي قائد انقلاب الانفصال, وممثل قوي الرجعية العربية, وبقايا الشركة الخماسية في سوريا التي ناصبت عبد الناصر العداء.. وصحيح أن جمهور المشاهدين أمطر المقدم عبد الكريم النحلاوي والاستاذ أحمد منصور بمهاتفات الهجوم الذي وصل الي درجة السباب.. وصحيح أن الصحف العربية في سوريا خرجت في معظمها تدافع عن الوحدة وتهاجم النحلاوي ومنصور.. وصحيح أن بعض الصحف السعودية/ الدولية فطنت إلي المؤامرة القطرية التي تود العبث واللعب في صندوق الذكريات القديم,واستخراج كل ما يمكن أن يسيء إلي العلاقات المصرية/ السعودية, أو يحيي زمان صراع مضي, وراح وانقضي.. وصحيح أخيرا أن وزير الإعلام السوري السيد محسن بلال اتصل بوزير الثقافة القطري( لان قطر ليس فيها وزارة إعلام) وطالبه بضرورة الاعتذار للشعب السوري( علي الرغم من العلاقة الوثيقة الحالية التي تربط الدولتين في محور إقليمي تقوده إيران) فاعتذر أحمد منصور علي مضض, وعلي استحياء, وعلي نحو هين وركيك. كل ذلك صحيح.. ولكن ما يدفعني إلي استمرار التوقف إزاء ما جري هو النقطتان التاليتان. أولا: أن قطر بالقطع ليست دولة محبة للمملكة العربية السعودية, حتي لو تملقتها متظاهرة بغير ذلك, كما فعل الشيخ حمد بن جاسم في حديثه مع مذيعه المفضل الأستاذ أحمد منصور العام الماضي. قطر دولة شيدت مشروعها السياسي( او هندسه لها الآخرون) علي فكرة مزاحمة( وإن أمكن إزاحة) الدور المصري/ السعودي في صون أمن الخليج, ومعالجة ما اصطلح علي تسميته ملف أزمة الشرق الاوسط, ومن ثم فحين تعمد قطر وقناتها( الجزيرة), ومذيعها( الأستاذ أحمد منصور) إلي الضغط علي أعصاب العلاقة بين الرياضوالقاهرة, عبر استرجاع واستدعاء ورقة الانفصال المصري/ السوري منزوعة من سياقها التاريخي والمنطقي, فإن ذلك لا يمكن اعتباره إلا عملا موجها ضد العربية السعودية بالأساس. ثانيا: إن حضور الكاتب الكبير الاستاذ محمد حسنين هيكل علي شاشة( الجزيرة) هو أمر أظنه في حاجة إلي مراجعة منه, مهما وفرت تلك القناة له منصة لخطاب يشرح مرتكزات العصر الناصري وسياساته, لأن تلك القناة واقعيا تسحب علي نفسها وعبر وجود الكاتب الكبير غطاء يحاول أن يخفي مشروعها السياسي وسوءاته وعوراته, وهو المشروع الذي يقوم علي إطاحة( مصر/ الكبيرة) تلك التي نذر جمال عبد الناصرحياته إلي آخر نفس فيها من أجلها, لا بل وربما يكون من المناسب هنا أن أطرح علي كل الكوادر المصرية الناصرية والقومية العاملة في تلك القناة( صاحبة المشروع المشبوه الذي يضرب عروبة مصر وذكري زعيمها كل يوم عشرات المرات) ان يستقيلوا منها ويتبرأوا من الارتباط غير المنطقي معها, لأنها تستخدمهم أيضا كغطاء سكريSugar-coat لتبليعنا مشروعها السام والخطير. ولا ينفع هنا الحديث عن احترافية العمل المهني التي لاعلاقة لها بالموقف السياسي, لأن وجودهم المهني لا ينفصل عن مواقفهم السياسية, وبخاصة إذا حملت ذلك السمت النضالي والمتمسك بالثوابت.. وهل هناك ثوابت ناصرية أكثر من العروبة والوحدة ؟! وأضيف الي مطالباتي رغبتي الحقيقية في أن تقاطع القوي الناصرية والقومية المصرية الظهور ضمن استضافات تلك القناة, التي أطلقت علينا الاستاذ أحمد منصور ليطارد روح جمال عبد الناصر ليس فقط في ملف الوحدة المصرية/ السورية, وإنما في عشرات المواضيع ولسنوات عديدة. آن لذلك الهراء أن يتوقف, وآن للقوي التقدمية والناصرية أن تدافع عن نفسها أمام حضور ذلك التحالف العاتي بين قوي الشوارعيزم وقناة الجزيرة, والذي يضع نصب عينيه أولوية إطاحة( مصر/ الكبيرة) واستدعاء وتكريس( مصر/ الصغيرة). المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع