لا أستوعب شيئا مما تفعله محكمة القاهرة للأمور المستعجلة هذه الأيام ، بعض ما أصدرته من أحكام كان خارج حدود التصور والمنطق أحيانا بالنسبة لي ، مثل حكمها بعودة الحرس الجامعي ، وهو الحكم الذي وصفه رئيس جامعة القاهرة الدكتور جابر نصار أستاذ القانون الدستوري بأنه حكم باطل وغريب ، وقال أحد السادة المستشارين في تصريحات صحفية أن القاضي الذي أصدر الحكم يتحتم تحويله إلى المحاكمة لتجاوز الاختصاص ، باعتبار أن القضية تتعلق بقرار إداري ، وكانت المحكمة الإدارية العليا صاحبة الاختصاص الوحيد فيه قد قضت فيه بحكم بات ونهائي ولا يقبل الطعن ولا التعقيب بأنه لا عودة للحرس الجامعي ، فما معنى أن تأتي محكمة غير مختصة وقاض غير مختص ويلغي هذا الحكم ، الدنيا دخلت في بعضها هذه الأيام ، واليوم فاجأتنا المحكمة المستعجلة ذاتها ، والعجلة أحيانا من الشيطان ، بحكم يتعلق بحركة حماس التي تحكم قطاع غزة ، انتهى إلى وصفها بأنها حركة إرهابية ولا يجوز التعامل معها ولا فتح مكاتب لها في مصر وحظر جميع نشاطاتها وأموالها في مصر ، وقد تعلقت حيثيات الحكم بقصص وروايات تتداولها الصحف والمواقع الالكترونية من باب التسالي وملأ الفراغ ، دون أن يثبت شيئ منها بدليل أو برهان حقيقي أو حتى حكم محكمة ، يعني تقريبا المحكمة قالت نأخذ بالأحوط ، لأني لا أجد أي تفسير آخر ، وبطبيعة الحال أن توصف حركة مقاومة فلسطينية كبرى في مصر بأنها حركة إرهابية فهو موقف يشعرني شخصيا بالعار كمواطن مصري ، ولم يكن يجري على خاطري ولا في الأحلام والكوابيس أن يأتي اليوم الذي توصف فيه حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية بأنها إرهابية ، هذا يوم أسود في تاريخ مصر ، ولن يشرف مصر بأي حال من الأحوال أن تكون الدولة الوحيدة في المنطقة ، مع إسرائيل ، التي تصف حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية بهذا الوصف الخطير ، وباسمي وباسم الشعب المصري الذي ضحى بدماء أبنائه ، جيلا وراء جيل ، من أجل فلسطين وكرامتها واستقلالها وحريتها ، أقدم اعتذاري لحركة حماس وكل قوى المقاومة الفلسطينية عن "العارض" الذي جرى اليوم . والحقيقة أن الحكم الذي أقحم السياسة في القضاء يدخل شؤون الدولة في اضطراب وعبث ، لأن حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين "حماس" تمثل سلطة حكم واقعية ، وتتعامل معها الدول المختلفة بهذا الاعتبار ، بما فيها مصر ذاتها ، ويستقبل قادتها ومسؤولوها كمسؤولين ، سواء كانوا سياسيين أو أمنيين ، وسبق أن التقوا وزراء وقيادات استخباراتية ومساعدين للرئيس من مبارك لطنطاوي لمرسي ، ناهيك عن الآلاف من الإعلاميين والصحفيين والسياسيين والقيادات من كل التيارات المصرية يسار ويمين وناصريين وليبراليين وإسلاميين ، كما أن الملف الفلسطيني بكل تشعباته يمثل عمقا بالغ الحساسية والخطورة للأمن القومي المصري ، وهو ما اضطر الدولة المصرية إلى فتح جسور علاقات مباشرة مع معظم القوى الفلسطينية بما فيها حماس ، وهناك تنسيق سياسي وأمني يتم بين الأجهزة المصرية وأجهزة حماس ، بعضه معلن وكثير منه غير معلن ، وإذا أخذنا الحكم "المستعجل" على محمل الجد فإن هذا يورط الأجهزة المصرية بالتخابر مع منظمة إرهابية ، أضف إلى ذلك ما يتصل بالدور المصري في ملفات المصالحة الفلسطينية ، كما أن جزءا كبيرا من قيمة الديبلوماسية المصرية على المستوى العالمي يتصل بقدراتها على إدارة الملف الفلسطيني وأداء أدوار محددة والاحتفاظ بجسور اتصال مع الفاعلين الفلسطينيين فيه وأهمهم على الإطلاق حماس وفتح ، فكيف يمكن للديبلوماسية المصرية أن تمارس هذا الدور وهي تتهم أحد أهم أركان الملف بأنها منظمة إرهابية ، وكيف ستكون مصر وسيطا مؤتمنا أو مقبولا أو محترما لدى كل الأطراف . الأمور تزداد "عكا" في مصر في الأشهر الأخيرة ، ولكنه "العك" الذي يدعوك للتفاؤل ، لأن الهياكل المزيفة عندما تتعرى يقترب سقوطها ، والآن تقترب مصر من مواجهة الحقيقة العارية ، بأن الدولة بكل مؤسساتها وسلطاتها في حاجة إلى إعادة بناء وإعادة هيكلة ، وعملية "تطهير" شاملة .