كان فجر يوم الاثنين غرة صفر 1425ه / 22مارس 2004 نهاية فاصلة في مشوار دام 66 عاما ً من العطاء المتواصل.. على يد أعداء الأنبياء والإنسانية جمعاء.. لتزف الأقدار البشرى بالشهادة للشيخ المريض.. والتي طالما انتظرها. فحفر الشيخ ياسين مكانه بين العظماء.. وخرج من الدنيا كما عاش فيها مرفوع الرأس.. وترك الذل والهوان لغيره.. ممن باعوا قضيتهم بعرض من الدنيا قليل. وكلما تأملت في مشهد القضية الفلسطينية.. وقصة المفاوضات العبثية.. وما آلت إليه.. حتى أصبحت القضية (سبوبة).. باللغة الدارجة لبعض المنتفعين يتاجرون بآهات الشعب المكلوم.. ويصنعون مجدا ً زائفا ً على أشلاء وجماجم الأبرياء من شعب فلسطين. يصيبني هذا المشهد بالحزن الشديد.. والضيق المكتوم.. وبخاصة كلما اقتربت ذكرى استشهاد الشيخ المجاهد أحمد ياسين – رحمه الله -.. حيث الحسرة على أشباه الرجال.. وعلى امتلاء الساحة بالأصفار المجاهيل الذين لا يشكلون أي قيمة.. في قضية شائكة تحتاج إلى أبطال مغاوير من أمثال ياسين والرنتيسي، وعياش، وغيرهم. والأدهى من ذلك.. فيا ليتهم إذا لم يكونوا جديرين بالتبعة والمسؤولية يتقاعدون ويتركون الساحة لمن يستطيع أن ينفخ الروح من جديد في جسد فلسطين.. ولكنهم ويا ويلي من لكن يريدون وأد الرجولة والفتوة في مهدها.. فإذا بهم رماح للجلاد في نحور إخوانهم وأبناء جلدتهم. وما أروع قول أبي الطيب المتنبي في أمثال هؤلاء الأصفار: أُعِيذُها نظراتٍ مِنْكَ صَائِبةً أنَ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ ورَمُ هذه المقدمة أضعها بين يدي القارئ الكريم.. ونحن نتحدث عن الشيخ ياسين في ذكراه. فقد اجتمع للشيخ المجاهد صفات القادة العظماء من الفكر النير والعاطفة الجياشة والعمل البصير.. فكان من عباقرة الإسلام.. فقد استقى أفكاره من القرآن والسنّة.. وتعامل معها وفق منهج الاعتدال والحيوية الّذي تشبّع به في مدرسة حسن البنا.. وكانت عواطفه مع دينه وشعبه المشرّد المظلوم.. فدفعه ذلك إلى الانخراط في العمل الميداني من أجل فلسطين تحت راية الإسلام.. لقد كان آيةً في فكره وعاطفته وعمله.. فأحبّه أبناء فلسطين كما أحبّه كل عربي ومسلم. فقد تمتع الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس بموقع روحي وسياسي متميز في صفوف المقاومة الفلسطينية.. مما جعل منه واحدا ً من أهم رموز الحركة الإسلامية والوطنية الفلسطينية طوال القرن الماضي. وهنا نحن نتعرض لأهم المراحل في حياته المباركة. المولد والنشأة ولد أحمد إسماعيل ياسين في قرية تاريخية عريقة تسمى "جورة عسقلان".. في يونيو/ حزيران 1936.. وهو العام الذي شهد أول ثورة مسلحة ضد النفوذ الصهيوني المتزايد داخل الأراضي الفلسطينية. مات والده وعمره لم يتجاوز خمس سنوات. عايش أحمد ياسين الهزيمة العربية الكبرى المسماة بالنكبة عام 1948.. وكان يبلغ من العمر آنذاك 12 عاما.. وخرج منها بدرس أثر في حياته الفكرية والسياسية فيما بعد مؤداه أن الاعتماد على سواعد الفلسطينيين أنفسهم عن طريق تسليح الشعب أجدى من الاعتماد على الغير.. سواء كان هذا الغير الدول العربية المجاورة أو المجتمع الدولي. ويتحدث الشيخ ياسين عن تلك الحقبة فيقول: "لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب إسرائيل السلاح من أيدينا.. بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوةالجيوش.. فارتبط مصيرنا بها.. ولما هزمت هزمنا.. وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين.. ولو كانت أسلحتنا بأيدينا لتغيرت مجريات الأحداث". عاش متقشفا التحق أحمد ياسين بمدرسة الجورة الابتدائية.. وواصل الدراسة بها حتى الصف الخامس.. لكن النكبة التي ألمت بفلسطين وشردت أهلها عام 1948م لم تستثن هذا الطفل الصغير. فقد أجبرته على الهجرة بصحبة أهله إلى غزة.. وهناك تغيرت الأحوال وعانت الأسرة - شأنها شأن معظم المهاجرين آنذاك - مرارة الفقر والجوع والحرمان.. فكان يذهب إلى معسكرات الجيش المصري مع بعض أقرانه لأخذ ما يزيد عن حاجة الجنود ليطعموا به أهليهم.. وترك الدراسة لمدة عام (1949-1950) ليعين أسرته المكونة من سبعة أفراد عن طريق العمل في أحد مطاعم الفول في غزة، ثم عاود الدراسة مرة أخرى. أصحاب العزمات تزدهم المحن صلابة وقوة في السادسة عشرة من عمره تعرض أحمد ياسين لحادثة خطيرة أثرت في حياته كلها منذ ذلك الوقت.. وحتى استشهاده –رحمه الله -.. فقد أصيب بكسر في فقرات العنق أثناء لعبه مع بعض أقرانه عام 1952.. وبعد 45 يوما من وضع رقبته داخل جبيرة من الجبس قدر له أن يعيش بقية عمره رهين الشلل الذي أصيب به في تلك الفترة. وما زال يعاني.. إضافة إلى الشلل التام من أمراض عديدة.. منها فقدان البصر في العين اليمنى بعدما أصيبت بضربة أثناء جولة من التحقيق على يد المخابرات الإسرائيلية فترة سجنه.. ضعف شديد في قدرة إبصار العين اليسرى.. والتهاب مزمن بالأذن وحساسية في الرئتين وبعض الأمراض والالتهابات المعوية الأخرى. الحياة العملية أنهى أحمد ياسين دراسته الثانوية في العام الدراسي 57/1958.. ونجح في الحصول على فرصة عمل.. رغم الاعتراض عليه في البداية بسبب حالته الصحية.. وكان معظم دخله من مهنة التدريس يذهب لمساعدة أسرته. طاقة جبارة.. ونفس وثابة شارك أحمد ياسين وهو في العشرين من العمر في المظاهرات التي اندلعت في غزة احتجاجا على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر عام 1956.. وأظهر قدرات خطابية وتنظيمية ملموسة.. حيث نشط مع رفاقه في الدعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة.. مؤكدا ضرورة عودة الإدارة المصرية إلى هذا الإقليم. وبدأت رحلة الاعتقال كانت مواهب أحمد ياسين الخطابية قد بدأت تظهر بقوة.. ومعها بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزة.. الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملة هناك.. فقررت عام 1965 اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية.. والتي استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين عام 1954.. وظل حبيس الزنزانة الانفرادية قرابة شهر.. ثم أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان. وقد تركت فترة الاعتقال في نفسه آثارا مهمة لخصها بقوله: "إنها عمقت في نفسه كراهية الظلم.. وأكدت (فترة الاعتقال) أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية". هزيمة 1967 بعد هزيمة 1967 التي احتلت فيها إسرائيل كل الأراضي الفلسطينية.. بما فيها قطاع غزة استمر الشيخ أحمد ياسين في إلهاب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباسي الذي كان يخطب فيه لمقاومة المحتل.. وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداء والمعتقلين.. ثم عمل بعد ذلك رئيسا للمجمع الإسلامي في غزة. التكوين الفكري يعتنق الشيخ أحمد ياسين أفكار جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر على يد الإمام حسن البنا عام 1928. العدو الصهيوني يتربص بالشيخ أزعج النشاط الدعوي للشيخ أحمد ياسين السلطات الإسرائيلية.. فأمرت عام 1982 باعتقاله ووجهت إليه تهمة تشكيل تنظيم عسكري وحيازة أسلحة وأصدرت عليه حكما بالسجن 13 عاما ً.. لكنها عادت وأطلقت سراحه عام 1985 في إطار عملية لتبادل الأسرى بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة". تأسيس حركة حماس.. ومرحلة جديدة من الجهاد اتفق الشيخ أحمد ياسين عام 1987 مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي الذين يعتنقون أفكار الإخوان المسلمين في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي بغية تحرير فلسطين أطلقوا عليه اسم "حركة المقاومة الإسلامية".. المعروفة اختصارا باسم "حماس". وكان له دور مهم في الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت آنذاك.. والتي اشتهرت بانتفاضة المساجد.. ومنذ ذلك الوقت والشيخ ياسين يعتبر الزعيم الروحي لتلك الحركة. رب سجن قاد نصرا مع تصاعد أعمال الانتفاضة بدأت السلطات الإسرائيلية التفكير في وسيلة لإيقاف نشاط الشيخ أحمد ياسين.. فقامت فيأغسطس/آب 1988 بمداهمة منزله وتفتيشه وهددته بالنفي إلى لبنان. ولما ازدادت عمليات قتل الجنود الإسرائيليين واغتيال العملاء الفلسطينيين قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي يوم 18 مايو/أيار 1989 باعتقاله مع المئات من أعضاء حركة حماس. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 1991 أصدرت إحدى المحاكم العسكرية حكما بسجنه مدى الحياة.. إضافة إلى 15 عاما أخرى.. وجاء في لائحة الاتهام أن هذه التهم بسبب التحريض على اختطاف وقتل جنود إسرائيليين وتأسيس حركة حماس وجهازيها العسكري والأمني. مهما طال الليل لابد من طلوع الفجر حاولت مجموعة فدائية تابعة لكتائب عز الدين القسام - الجناح العسكري لحماس- الإفراج عن الشيخ ياسين.. وبعض المعتقلين المسنين الآخرين.. فقامت بخطف جندي إسرائيلي قرب القدس يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 1992.. وعرضت على إسرائيل مبادلته نظير الإفراج عن هؤلاء المعتقلين. لكن السلطات الإسرائيلية رفضت العرض.. وقامت بشن هجوم على مكان احتجاز الجندي.. مما أدى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة الإسرائيلية المهاجمة ومقتل قائد مجموعة الفدائيين. وفي عملية تبادل أخرى في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1997 جرت بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل في أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة عمان.. وإلقاء السلطات الأمنية الأردنية القبض على اثنين من عملاء الموساد سلمتهما لإسرائيل مقابل إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين.. أفرج عن الشيخ وعادت إليه حريته منذ ذلك التاريخ. وهذا يقوي أملنا في الله عز وجل أن يقر أعيننا برؤية شيخنا الدكتور/ عمر عبد الرحمن حرا طليقا معافى.. في القريب العاجل،جميع المجاهدين المغيبين خلف أسوار الظالمين بمشيئة الله تعالى. الإقامة الجبرية وبسبب اختلاف سياسة حماس عن السلطة كثيراً ما كانت تلجأ السلطة للضغط على حماس.. وفي هذا السياق فرضت السلطة الفلسطينية أكثر من مرة على الشيخ أحمد ياسين الإقامة الجبرية مع إقرارها بأهميته للمقاومة الفلسطينية وللحياة السياسية الفلسطينية. محاولة الاغتيال قد تعرض الشيخ أحمد ياسين في 6 سبتمبر/ أيلول 2003 لمحاولة اغتيال إسرائيلية حين استهداف مروحيات إسرائيلية شقة في غزة كان يوجد بها الشيخ.. وكان يرافقه إسماعيل هنية. ولم تكن إصاباته بجروح طفيفة في ذراعه الأيمن بالقاتلة. وترجل الأسد الجسور حتى كانت الميتة الشريفة التي يتمناها كل حر أبي.. والشيخ عائد من صلاة الفجر في صحبة بعض أحبابه.. إذا بيد الغدر والخيانة ترصد الشيخ فوق كرسيه المتحرك.. وتوجه له الصواريخ الغاشمة من طائراتهم المعتدية..لتعلمنا جميعا ألا لا نامت أعين الجبناء. إن الشيخ - رحمه الله - نموذج لعالم الدين الّذي يحبّه المسلمون لصدقه.. ويلتفّون حوله لأنّه حامل لهمومهم محقق لآمالهم.. فهو امتداد لابن تيميّة والعز بن عبد السلام والأمير عبد القادر وابن باديس وعز الدين القسام وحسن البنا. وهو لم يعد من الوجوه الفلسطينيّة.. إنما هو رمز يفخر به كلّ عربيّ وكلّ مسلم. ومن واجبنا أن نبقي ذكراه حيّةً تتعلّم منها الأجيال.. فهو بحقّ من فرسان الإسلام ورجالاته الأحرار.. رحمه الله رحمة واسعة.. وعوض الأمة خيرا.