البيان الصادر مؤخرًا عن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بشأن تطور الأحداث في ليبيا، والذي أدان فيه ما يجري هناك من "الجرائم الشنعاء التي ارتكبها ولا يزال معمر القذافي وأعوانه" على حد وصف البيان.. يعتبر "ثورة" بكل معاني الكلمة؛ من حيث الشكل والمضمون. فمن حيث الشكل، يعتبر مجرد التعليق على تلك الأحداث خطوة متقدمة بالنظر إلى السكوت المريب للهيئات الإسلامية الأخرى، فضلاً عن صمت الأنظمة العربية التي تذرعت بأن هذا شأن ليبي داخلي! فجاء البيان ليؤكد من جديد أن للأزهر دورًا عربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا بجانب دوره داخل المجتمع المصري، وهي أدوار تتكامل ولا تتعارض.. فهذا البيان موقف عملي يمحو المحاولات السابقة التي بُذلت لتمصير دور الأزهر، وجَعْله مؤسسة من مؤسسات الدولة بالمعنى الحصري والسلبي للكلمة، مما يخالف تاريخ الأزهر على مدى قرون متطاولة. أما من حيث المضمون؛ فلا بد أن نشير أولاً إلى أن الفكر الديني فيما مضى ظل "منحازًا" إلى الأنظمة والحكام - الذين يُطلق عليهم "أولي الأمر"- عند حدوث نزاع بينهم وبين الشعب، أو "الرعية" كما يعبر في التراث الإسلامي.. انطلاقًا من أن طاعة أولي الأمر، هي طاعة لله ورسوله، كما تشير آيات قرآنية وأحاديث نبوية إلى ذلك. لكن هذا الفهم - الذي يكون صحيحًا في بعض الحالات- لم يأخذ في اعتباره الصورة الكلية التي رسمها الإسلام للعلاقة التي يجب أن تكون بين الحاكم والرعية، وغفل عن أن الإسلام يقرر أنها علاقة لا تقوم على الاستعباد أو التملك أو الطاعة العمياء أو الخنوع والذلة، وإنما تقوم على "الحقوق والواجبات" المتبادلة، أو ما يعبر عنه في الفكر الحديث ب "العقد الاجتماعي". وهذا المعنى واضح جدًّا في خطبة أبي بكر الصديق عند توليه، حين قال: «يا أيها الناس؛ إني وليتُ عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على الحق فأعيونني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم»، إضافة إلى وضوحه في عدد كبير من الآيات والأحاديث لا مجال للاستفاضة فيها في هذا المقام. لكن الفهم المعوج لتلك العلاقة المتكافئة والمتبادلة هو الذي ساد عند تبرير خروج الحاكم على الشرع وعلى حقوق الرعية؛ بحيث اعتبر أن أيَّ صورة لا يرضاها الحاكم من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خروجٌ على الحاكم الشرعي!! وقد رأينا بعض العلماء سواء في تونس أو مصر أو ليبيا، ينكرون على الناس الخروج في المظاهرات ويطالبونهم بطاعة ولي الأمر والصبر على أذاه، فيما بدا تركيزًا على جانب واحد من العلاقة المقررة في (العقد) بين الحاكم والأمة، دون نظر إلى طبيعة العقد برمته، وإلى حقوق وواجبات الطرفين معا!! فأنْ يدعو شيخ الأزهر "المسئولين الليبيين وضباط الجيش الليبي وجنوده" إلى عدم طاعة النظام هناك "وإلا أصبحوا شركاء له في الجرم، يؤخذون به في الدنيا والآخرة"، ويعتبر أن حكمه هو حكم الغاصب المعتدي المتسلط على الناس ظلمًا وعدوانًا؛ فهذا موقف يُعد ثورةً، لا أقول في الإسلام، وإنما في الفكر الإسلامي التقليدي، الذي زرع في الناس الجبن والاستسلام للطغاة، تحت زعم أنه يجب الصبر على الحاكم الظالم حتى لو أخذ مالك، وجلد ظهرك.. مثلما سمعت في خطبة الجمعة الماضية التي بُثت على القناة الرسمية الليبية!! صحيح أن موقف فضيلة العلامة يوسف القرضاوي كان متقدمًا كثيرًا عن موقف شيخ الأزهر، سواء في توقيته الزمني أو في مضمونه ودعوته لإهدار دم القذافي السفاح، لكن يبقى أن موقف العلامة القرضاوي هو موقف (فرد) - حتى لو كان هذا الفرد بأمة!- والأفراد بطبيعة الأحوال يكون هامش الحرية لديهم أوسع بكثير من المؤسسات.. ولذلك يبقي موقف الأزهر (المؤسسة) له دلالته المهمة في بلورة رأي إسلامي عام نحو ترسيخ الحرية والحقوق المتبادلة بين الحاكم والمحكوم. إن موقف شيخ الأزهر، له ما بعده، ويجب أن يكون دعوةً عمليةً للعلماء والدعاة لإعادة النظر في تراثنا السياسي الإسلامي؛ ليبرزوا من جديد التأكيدَ على ندية العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ بل لا أتجاوز أبدًا إذا قلت: إن الأمة هي الأساس، والحاكم أجير عندها؛ تكافئه إذا أحسن، وتعزله وتحاسبه إن أساء؛ فالطاعة الأصلية والأصيلة هي طاعة الله ورسوله، وما دونهما يكون متعلقًا بهما ويدور في إطارهما. فإن خرج الحاكم على ذلك، فلا سمع له ولا طاعة؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. هي إذن بداية موفقة للأزهر الشريف، خاصة بعد ثورة 25 يناير التي يبدو أنها ستدفعنا دفعًا لإعادة النظر في كثير مما روَّج له البعض على أنه مسلمات وخطوط حمراء، ليس في الحياة السياسية وحدها بل في كل مجالات الحياة.. وننتظر المزيد من الأزهر الشريف وإمامه الأكبر.