ليس من العيب أن نعترف أن الأجيال الجديدة في مصر تعاني من مشكلات في الخبرة السياسية ، وذلك ليس تقصيرا منهم بقدر ما هو ناتج جهود النظام الديكتاتوري السابق في تغييب متعمد للعقل السياسي وخنق لأي عمل سياسي وتهميش لأي طاقات تريد المشاركة السياسية وتحويل أي عمل سياسي إلى نوع من المخاطرة الأمنية أو الانتهازية المندمجة مع منظومة الفساد الرسمي ، وبالتالي انعدم تواصل الخبرات والحراك السياسي المفتوح والشفاف الذي يحقق تراكمه وعيا سياسيا كافيا لاستقامة حياة سياسية جادة وواعية يدعمها عقل سياسي حقيقي وأمين وعملي . وسوف نعاني خلال مرحلة التحول السياسي التي نعيشها الآن من بعض الآثار الجانبية لهذا العقل السياسي البسيط ، وربما تزعجنا بعض سلوكيات مما يمكن وصفه بالمراهقة السياسية ، ولكن نقاء الروح الجديدة لتلك الأجيال ورغبتها الجادة في الإصلاح ونهضة الوطن وندرة تلوثها بالمناخ الفاسد الذي ساد سابقا سوف تقلص هذه المخاطر وتجعلنا نعبر مرحلة التحول بأسرع وقت وأقل خسائر . هناك حالة من النشوة السياسية العارمة التي تنتشر بين كل القوى السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والإعلامية في مصر بعد ثورة 25 يناير ، الجميع يتنفس نسائم الحرية الحقيقية لأول مرة منذ عقود طويلة ، والكل بدأ يعيش بالفعل أجواء "البلد بلدنا" ، لذلك هناك تحركات متسارعة لقوى سياسية واجتماعية وثقافية ودينية كانت مهمشة أو مقموعة ، تريد أن تشعر بأنها في عالم جديد ، وتحاول أن تتلمس طريقها إلى ما يمكن أن تفعله أو تقدمه للوطن والمجتمع وما يمكن أيضا أن تربحه في هذا التحول الجديد من حقوق ثقافية واجتماعية وسياسية ، وهذا الحراك المتسارع لا يقلق ، بل إني على ثقة تامة من أن هذا الحراك الجديد هو المياه المتجددة والمتدفقة التي تطهر حياتنا من كل الآفات التي تراكمت فيها طوال العهد الفاسد السابق ، لأن الركود والقمع والإذلال هو الذي ولد ظواهر التطرف والعنف والطائفية والإرهاب والسلبية والفساد والإحباط والعمل السري خارج نطاق القانون ، الحراك الجديد المتسارع سيطهر مصر من كل تلك الآفات ، ومن ثم يدفع ببلادنا إلى آفاق رائعة ومبهرة في المستقبل القريب بإذن الله . فقط نريد أن نثق في قدراتنا ، وفي أننا أصبحنا جزءا من حركة التاريخ الذي يكتب الآن في تلك المنطقة بكاملها ، وليس في مصر وحدها ، وعلى الذين يتحدثون عن مخاوف من سرقة الثورة أو ما شابه ذلك أن يكونوا أكثر ثقة في أن رياح التغيير ليست مصرية فحسب ، بل رياح عربية تمتد في المنطقة كلها ، وسوف تغير وجهها ، وستعود مصر بكل ثقلها التاريخي والديني والعلمي والحضاري والبشري ، رائدة لأشقائها العرب وطليعة لهم إلى حياة أكثر ديمقراطية وإنسانية وكرامة وحرية وعدلا . أتمنى أن تنشغل القوى الوطنية المختلفة في بلادنا بالتأسيس للبناء المرحلي الجديد الذي يضمن نقلة حقيقية دستورية وقانونية وسياسية ومدنية في بلادنا ، بدلا من الانشغال بالتربص بعضنا ببعض ، كما أتصور أن الانشغال بحروب سياسية أو دستورية لم يأت أوانها ، سيكون بمثابة إرهاق سياسي تنتهي معه الحركة السياسية والثقافية والدينية إلى إهدار وهجها وعنفوانها في الهدر ، ثم تأتي إلى المعترك الحقيقي والجاد وهي منهكة وغير قادرة على مجابهة التحديات الأهم ، ليس كل من كتب مقالة أو صرح تصريحا سيكون له قيمة أو صدى أو تأثير حتى نطير به أو ضده ، ليس كل من لوح بفكرة أو رأي يستخفنا ويهيجنا ويدفعنا إلى انفعالات وجهود لا معنى لها ، لا بد من التعايش مع أجواء حرة جديدة ، كل أحد يقول ما يريد ويعبر عما يتمناه أو يتصوره ، ويبقى الاختيار في النهاية بيد الأمة ، والقرار قرار الشعب ، وهذه هي الضمانة التي تجعلنا لا نقلق أبدا من هذا الجدل أو ذلك التناوش السياسي والفكري . ثورتنا بخير ، ووطننا بخير ، والقيادة المرحلية الحالية التي تضطلع بها القوات المسلحة بخير ، فلنعزز مطالبنا ، ونعتصم بثقتنا بأنفسنا ، ونحتكم للعقل الواعي المسؤول ، ولا يستخفنا كل زاعق أو ناعق ، وعلينا جميعا أن نستشعر عظم المسؤولية الملقاة على هذا الجيل ، ليس أمام مصر وحدها ، بل أمام المنطقة العربية والشعوب العربية بالكامل ، التي تنظر الآن إلى تطورات التجربة لتكون ملهمة لها ونموذجا يحتذى للبناء الجديد . [email protected]