لقد فجَّر الله سبحانه وتعالى زمزم تحت أقدام إسماعيل لما امتثل خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- لأمر الله عز وجل بأن يضع زوجته وابنه الرضيع إسماعيل في هذا المكان امتثالا لأمر رب العالمين، فكانت زمزم هدية الله تعالى لهم ولمن جاء من بعدهم... وظلَّت زمزم باقية حتى دخلت قبيلة جرهم مكة ومكثت بها سنوات عديدة ثم خرجت منها، وقبل أن تخرج القبيلة من مكة، طمرت (أي ردمت) زمزم، ومرت السنون وزمزم مطمورة، ولم يعلم أحد مكانها. ورأى عبد المطلب –جد النبي عليه السلام- مكان زمزم في المنام.. وحاول إعادة حفرها -ولم يكن له يومئذ من ولد يعينه على تحقيق مراده إلا ابنه الحارث أكبر أبنائه- ولكن قريشا منعته من ذلك..!! فنذر عبد المطلب لله إن رزقه الله عشرة من الولد يحمونه ويعينونه، أن يذبح واحدًا منهم قربانا لله... فرزقه الله عشرة من الأولاد الذكور، وأراد أن يوفي بنذره بذبح أحدهم، فاقترع بينهم فجاءت القرعة على عبد الله ولده الصغير وأحب أبنائه إليه، وهمَّ بذبحه فمنعته قريش وقد وجد بينه وبين عبد الله سدَّا منيعًا يحول دون ذبحه.. وطلبت منه قريش أن يُحَكِّم حكمًا.. فأرشده الحكم بأن يضع عشرة من الإبل -وهي دية الفرد عندهم وقتذاك– وأن يضرب بالقداح على عبد الله وعلى الإبل، فإذا خرجت على عبد الله، زاد عشرة من الإبل، وإذا خرجت القداح على الإبل فانحرها أمام الكعبة.. وجيء بالإبل وصاحب القداح، وقام عبد المطلب داخل الكعبة يدعو الله أن ينجى ابنه، وأخذ صاحب القداح يضربها، وكلما خرجت القداح على عبد الله، زاد عشرة من الإبل حتى بلغت مائة، ثم فارقت القداحُ عبدَ الله بن عبد المطلب إلى الإبل.. والسؤال: لماذا فارقت القرعةُ عبدَ الله؟؛ لأنَّ في ظهره أعظمَ مخلوق هو سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، ورضي الجميع وفرحوا، ونحر عبد المطلب الإبل أمام الكعبة.. * * * ولما بلغ عبد الله بن عبد المطلب أشده كانت نساء قريش تعرض نفسها عليه للزواج منه، فلم يرض بذلك.. ولكنه تزوج من سليلة الشرف العظيم والنسب العالي، أشرف فتاة وأعفها وأكملها خُلقًا وخَلقًا هى آمنة بنت وهب القرشية، وبنى بها (أي تزوج ودخل بها) وحملت منه، ولكن المُقام لم يطل بينهما، ذلك أن المنادي نادى بأن القافلة التي ستذهب إلى الشام سوف تتحرك، وشارك في هذه القافلة شباب كثير من قريش كان من بينهم عبد الله والد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وخرجت القافلة إلى الشام، وشاء الله جل في علاه أن تحمل السيدة آمنة بأعظم مخلوق، محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ فقد شعرت أنَّ في بطنها جنينًا سمعته يسبح الله. وطال البعاد بينهما، وبعد فترة عادت القافلة إلى قريش من الشام وعاد جميع أفرادها سالمين إلا عبد الله بن عبد المطلب، الذي مات في الطريق ودفن عند أخواله من بني النجار بالقرب من المدينةالمنورة مات وهو في الخامسة والعشرين من عمره.. مشياناها خُطى كُتبت علينا ومن كُتبت عليه خُطى مشاها ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها * * * وفي ليلة مباركة ليلة طاب هواؤها وصفت سماؤها وغردت الطيور فيها بتسبيح ربها، في الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل ولد محمد (صلى الله عليه وسلم)، وجاء إلى الدنيا يتيمًا فمن الذي سيرعاه.. إن الذي سيرعاه هو الله. لذلك لما جاء إلى الدنيا لم يقل أبي أبي وإنما قال ربي ربي. ولد اليتيم ونزل من بطن أمه ساجدًا وكأنه يقدم التحية لله رب العالمين. ولما علمت ثويبة جارية عمه أبي لهب بأنه ذكر، ذهبت إلى عمه أبى لهب وبشرته بمولوده ففرح الرجل واعتقها؛ لأنها بشرته بمحمد (صلى الله عليه وسلم) فكان هذا العتق إيذاناً وإعلاماً بأن هذا المولود سيحرر العبيد.. ولمِا لا وهو الذي جعل من العبيد سادة ومن المستضعفين قادة... فهل ضاع ذلك عند الله.. كلا؛ لذلك فإن الله عز وجل يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين؛ لأنه فرح بمولد محمد عليه السلام.. * * * وجاءت المرضعات إلى مكة تلتمس المواليد وكانت كل مرضعة تذهب إلى الأطفال الأغنياء حتى تحصل على المنح والعطايا والهبات.. أما هذا المولود فهو يتيم فمن الذي يأخذه؟ واليتامى في هذه الدنيا مضيعون.. وقد حذر الله من أكل مال اليتيم. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا). وحينما يبكي اليتيم يهتز لبكائه عرش الرحمن ويقول الله: "مَن الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب؟!". ويقول النبي الرحيم محمد صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا -وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) أخرجه البخاري. وقال في الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه). وجاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يشكو قسوة قلبه ويطلب علاجا لهذا المرض الخطير فقال (صلى الله عليه وسلم) : (امسح رأس اليتيم واطعم المسكين). ويقول الشاعر متهكما على ظلم اليتيم: يمشى اليتيم وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها وتراه ممقوتًا وليس بمذنب ويرى العداوة لا يرى أسبابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنَّت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت فقيرًا يومًا ماشيًا نبحت عليه وكشرت أنيابها ورأت السيدة حليمة السعيدة –المرضعة التي خلدها التاريخ- بدلاً من أن ترجع إلى قومها صفر اليدين أن تأخذ محمد اليتيم لترضعه. ولكن العناية الإلهية لم تترك محمدا لحظة من اللحظات، فأنبتت الأرض بعد أن كانت جدباء، وكثُر اللبن في ضروع الشياة والأنعام، حتى قال زوجُ حليمة: والله يا حليمة ما وجدت مولودًا أعظم بركة من هذا الوليد؟!. * * * ولما عاد محمد إلى أمه رأت أنه من باب الوفاء عليها أن تأخذه ليزور قبر أبيه.. محمد في السادسة من عمره.. وهي شابة في ريعان شبابها.. وتحرك الركب من مكة.. محمد وأمه آمنة وخادمة يقال لها أم أيمن، ووصل محمد إلى قبر أبيه ولم يكن بين اليتيم وبين أبيه إلا برزخ إلى يوم يبعثون. محمد فوق الأرض وأبوه تحت الأرض.. وبعدما انتهت الزيارة. أخذت الأم طفلها.. وترك الركب إلى مكة، وعند قرية تُسمى الأبواء سقطت آمنة تشكى لما قد حلَّ بها، وتشتكي مرضًا قد ألمَّ بها... وفي هذه الأوقات العصيبة والظرف الجلل تضم الأم محمدًا إلى صدرها.. بيد أن الموت يضمها إليه. ماذا تفعل يا رسول الله وسط الجبال ووسط الرمال؟؟ فقال محمد اليتيم لأم أيمن أنت أمي بعد أمي... وشاءت إرادة الله أن يُولد محمد يتيما ويعيش يتيما وهذه إرادة الله... يقول الله عز وجل في حديثه القدسي (عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد...) شاءت إرادة الله أن يُولد محمد يتيما حتى يتولى الله عزل وجل تربيته؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.