منذ سنوات لا أعرف عددها اعتدت في نهاية كل عام أن أجلس وحيدا في مكتبي أتابع عناق عقارب الساعة إيذانا بانتهاء آخر يوم من عام يمضي, وميلاد لحظات عام جديد لا تفصله عن العام الذي سبقه إلا الثانية الفاصلة من الدقيقة الأخيرة للساعة الثانية عشرة من آخر يوم في العام الماضي. لايتبقي معي في هذه اللحظة المعلنة لبداية العام الجديد سوي قلمي وذاكرتي ومفكرة جديدة مع مفكرة عام مضي لا ندرك أنه تسرب من بين أيدينا دون أن ندري ليضيف إلي أعمارنا عاما جديدا, وينقص من حياتنا عاما آخر, وبرغم هذه الحقيقة التي لا يمكن حسابها بدقة فإنني أعتبر لحظة عناق العقارب الثلاثة في هذا اليوم لحظة ميلاد متجددة مسكونة بمشاعر الفرح والبهجة والأمل, حتي لو كانت بعض أيام العام الفائت حزينة أو مريرة, ودائما ما أقول إن علينا أن نتقبل الحياة بكل ما تحمله من حلاوة ومرارة. المهم ألا نجعل مرارتها تحول بيننا وبين الاستمتاع بما تبقي منها, ونملك القدرة علي صناعة الفرح وتحويل تجارب الحياة وأيامها الحزينة إلي زاد وقوة ودافع للبحث عن الأمل واليقين والخير والحب والسعادة, فهناك دائما من المعاني والقيم الكثير ما يستحق الحياة من أجله. مع بداية كل عام جديد وفي تقليد سنوي أصبح بالنسبة لي من الطقوس التي لا يمكن تغييرها, ولا أستطيع التعامل وقبول فكرة قدوم العام الجديد إلا بعد تنفيذها, أفتح أجندة أو مفكرة العام الماضي وأعيد قراءة تواريخها بدءا من اليوم الأول فيها حتي نهاية صفحات الأيام, وأعود لأيام العام الذي مضي بلحظاته وساعاته وأيامه وإلي مادونته من أشارات وكتبته بوضوح, أتذكر مواعيده وملاحظاته وأسماءه ومواقفه, إنها ساعة توقف مع النفس أسأل فيها عقلي وأيام العام ماذا فعلت؟ وقدمت؟ وما هو نصيب هذا العام من الفرح والحزن! وما هي أسباب النجاح هنا والاخفاق هناك؟ وهل مرت الأيام دون أن تحقق شيئا وتقدم جديدا وتشارك الآخرين في أيامهم؟ عادة لا أعطي لنفسي ولأيامي درجات نجاح أو تقدير معين, لكنني أخرج من تلك اللحظات بشكل أو بآخر راضيا ممسكا بالأمل في الأيام المقبلة للعام الجديد, أيام يسمح فيها الوقت بسحب كتاب ينتظر دوره في القراءة أو مشروع كتابة سطور طويلة اضطررت لتأجيله بسبب ضغوط العمل الصحفي اليومي واهتمامات ومشاغل العمل العام, وأيام مقبلة تتيح لي استرداد أصدقاء ورؤيتهم حالت أعباء وزحام الدنيا دون اللقاء. في صفحات العام الجديد أدون وأسجل دون غضب ما تأجل من أعمال وأمنيات علي أمل تحقيقها في الأيام المقبلة وتقفز أمامي في بداية هذه الصفحات ما يرتبط بذكريات الطفولة وأيام الصبا والشباب وحكايات الاصدقاء, أعرف أن لكل عمر ولكل زمن حلاوته ومميزاته, وأن القدرة علي الحياة هي التصالح مع كل مراحلها, لكن يبدو أن لمرحلة الصبا بريقا خاصا, فهي الجزء الأكثر صدقا وعفوية وانطلاقا دون قيود وحسابات وفي كثير من الأحيان يشدني الحنين للعودة إلي شاطئ مدينتي بورفؤاد, والسباحة في بحرها المالح, واللعب علي رمالها وفي حدائقها وشد خيط طائرتي الورقية لتعلو أكثر في السماء, وتسلق أشجار الغابة الصغيرة أو المشتل القريب من منزلنا. تضغط دقات الثانية عشرة علي خزائن الذاكرة ويدور شريط طويل بشكل سريع من الذكريات ترجعك لأيام التكوين وصداقات العمر والبراءة, والرحيل عن الأماكن, وغياب الاحباب والاصدقاء, وفقدان الأهل, ووهج مرحلة الشباب بتحررها ونضجها واختياراتها ودقات القلب ورسائل الحب وأغنياته. يمر شريط الذكريات علي أيام الصبر والكفاح والعمل والإرادة وقصص النجاح. شريط حياة يمتد مختصرا سنوات العمر في لحظة انتقال من عام لعام, ليتوقف مؤكدا أن هناك دائما ما يستحق العطاء والتضحية, وبذل الجهد لأن علي هذه الأرض دائما كما يقول محمود درويش ما يستحق الحياة. نطمح جميعا وهذا حق في أن نصبح شيئا لكن مقابل ذلك علينا أن ندفع ضريبة ما نطمح إليه, فلا نجاح بلا عمل وإيمان بما نقوم به, ويستوقفني في هذا المجال ما أدونه في أجندتي من ملاحظات تتعلق ببعض التفاصيل الصغيرة المرتبطة بالحياة والعمل وسلوك الناس وطبائعهم, وعادة ما تأسرني طيبة الناس وبساطتهم وعرفانهم بالجميل, ويلفت نظري من يتوافق سلوكه مع مظهره وأقواله مع أفعاله وأقدر من يسعي لتحقيق أمانيه واحلامه بطرق مشروعة, والصادق مع نفسه ومع الآخرين, وأتعجب من هؤلاء الذين يكرهون نجاحات البشر, ويحملون في داخلهم شرا مخيفا يأكلون به أنفسهم قبل الآخرين, وأصدم من هؤلاء الذين يتصفون بالخسة والغدر والخيانة ولا يفعلون شيئا سوي انتظار اللحظة لطعن الآخرين طمعا أو كرها, ويدفعهم احساسهم بالفشل وقلة الامكانات والقدرات لمحاولة الوقيعة وإفشال الناجحين. يزدحم شريط الذكريات بنماذج عديدة من ضعاف النفوس والفاشلين والحاقدين والموتورين, ويمضي الشريط, فالقافلة دائما تسير, ولا يصح إلا الصحيح, وتبقي الذكريات وتستمر الحياة بحلوها ومرها بكل ما تحمله لنا من فرح وحزن وسعادة وألم, وتتعانق عقارب الساعة لتعلن بداية عام جديد.. كل عام وأنتم بخير, فلا يوجد فرح حقيقي بدون ألم حقيقي.