"إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، سيد الأوجه الصاعدة، وراية الطلائع من كل جنس، منفرط على أكمامه كل دمع، ومفتوحة ممالكه للجائعين، وإيقاع نعليه كلام الحياة فى جسد العالم". هذا ما كتبه الشاعر "محمد عفيفى مطر" تحت عنوان "جرأة إهداء" مفتتحاً ديوانه "أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت". وهو إهداء استحق به "مطر" أن يقف بين الشعراء الذين ناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرجل الذى "تفتخر البشرية بانتسابه إليها" كما يقول البروفيسور "شيريل" الذى كان عميد كلية الحقوق بفيينا. ولا أقصد فحسب هؤلاء الشعراء أصحاب "المدائح النبوية" مثل زاهدهم "البوصيرى" وأميرهم "أحمد شوقى"، بل أقصد الشعراء عموماً، الشعراء الذين ارتقوا بفنهم إلى المرتبة التى يستحق ألا يهبط عنها، وجعلوه أداة لتحرير رؤاهم من حدود الغرض الضيقة وحسابات المصلحة التى يمليها الالتفات إلى الانتماء العرقى والقومى والدينى، أقصد الشعراء الذين حررهم شعرهم واقترب بهم من الحقيقة فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبغى أن يُرى، وأحبوه وقدروه كما ينبغى للقلوب الصافية والعقول النيرة أن تحبه وتقدره. ومنهم الشاعر الروسى "بوشكين"، الذى ذهب إلى السيرة النبوية يقتبس منها شعراً فى غاية الرقة يقول فيه: "شُقّ الصدر، ونُزع منه القلب الخافق، غسلته الملائكة، ثم أُثبت مكانه! قم أيها النبى وطف العالم، وأشعل النور فى قلوب الناس". والشاعر الألمانى "جوته" الذى يقول فى "الديوان الشرقي" مخاطباً الشاعر حافظ شيرازى: "أى حافظ إن أغانيك لتبعث السكينة ... وإننى مهاجر إليك بشعوب البشرية المحطمة، لتحملنا في طريق الهجرة إلى المهاجر الأعظم محمد بن عبد الله ...إننا، نحن أهل أوربا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد. وسوف لا يتقدم عليه أحد... ولقد بحثت فى التاريخ عن المثل الأعلى للإنسان ، فوجدته فى النبي محمد ... وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما ظهر على يد محمد الذي انقاد له العالم كله بكلمة التوحيد". ويرى الشاعر الفرنسى "لامارتين أن معرفة محمد صلى الله عليه وسلم هى الحدث الأعظم فى حياته، حيث يقول: "أعظم حدث فى حياتى هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود. من ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟ ومن هو الرجل الذى ظهر أعظم منه، لو رجعنا إلى جميع المقاييس التى تُقاس بها عظمة الإنسان؟ إن سلوكه عند النصر وطموحه الذى كان مكرساً لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوي أمور كلها تدل على إيمان كامل مكّنه من إرساء أركان العقيدة. إن الرسول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذى أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد، لقد هدم الرسول المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق". فى نهر هذه اللغة الرقراقة رحت أغتسل فى ذكرى مولد سيد الخلق، محمد صلى الله عليه وسلم، باحثاً فى صدق كلمات هؤلاء القوم عن ترياق من زيف كلمات أخرى، انحدرت إلى درجة التشكيك فى اسم النبى صلى الله عليه وسلم وتاريخ ميلاده! فقد زعم واحد أن النبى لم يكن يدعى محمدا، وقال آخر إنه لم يولد فى شهر ربيع، وهى مزاعم أدنى من محاولة الاجتهاد فى الرد عليها، ولعله من المضحك أن كذاباً من قبل أراد الإساءة فكتب منذ عقود أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن المحمد الوحيد فى جزيرة العرب، وأن خبر "محمد" النبى المنتظر لما شاع بواسطة الأحبار والرهبان، سمى أكثر من شخص أبناءهم بهذا الاسم، رغبة فى الاستئثار بأبوة "النبى الخاتم". وهكذا نكون بين كذابين، أحدهما يدعى وجود أكثر من محمد، والآخر يزعم أنه لم يكن هناك أى محمد، وكلاهما ينسب نفسه إلى العلم! وكذبا، فأهل العلم "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، وأهل الإيمان يحبونه فوق ما يحبون أنفسهم، والمفكرون الحقيقيون يجدون فى سيرة الرسول مادة خصبة للبحث والتأمل، وتجد عقولهم فيها ثروة من الأفكار ذات الشأن، ومن هؤلاء "اتش جى ويلز" الروائى صاحب "آلة الزمن"، الذى استوقفته "خطبة الوداع"، وجاء تعليقه عليها تعبيراً عن رأى حصيف وروح منصف، حيث يقول: "حجّ محمد (صلى الله عليه وسلم) حجة الوداع من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذلك ألقى على أتباعه موعظة عظيمة.. إنّ أول فقرة منها تجرف أمامها كل ما كان بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة". و"ويلز" هنا يلتفت بحق إلى ما يدعو إليه الإسلام من أخوة تقوم على الرحمة والعدل، أخوة لا تعرف التبجح، ولا الاستعلاء على الناس، سواء كان هذا الاستعلاء بسلطة مغصوبة أم بعلم مزعوم. لقد وضع النبى صلى الله عليه وسلم الديكتاتورية والكذب فى سلة واحدة، لهذا لا تصدقوا الكذابين حين يزعمون أنهم ضد الديكتاتورية، ربما كانوا ضد "ديكتاتور" واحد، ربما كانوا ضد "حالة" من السلطة، لكنهم يبقون جزءاً لا يتجزأ من الديكتاتورية بمعناها العام، الديكتاتورية التى تقوم على اغتصاب السلطة واستغلال البشر.