الدعاية الانتخابية في مصر – كما غيرها من الآليات والمؤسسات التي توصف زورا وعدوانا بالديمقراطية - لا تقوم بأيٍ من الأدوار التي تقوم بها الدعاية الانتخابية الحقة. ففي الدول الديمقراطية تقوم الدعاية الانتخابية بعدد من الوظائف التي تتكامل مع الوظائف التي تقوم بها المؤسسات الأخرى للديمقراطية.. وأول هذه الوظائف وظيفة أساسية بأبعاد ثلاثة هي: (1) إيصال البرامج الإنتخابية والمواقف السياسية للمرشحين إلى الناخبين، ثم (2) اقناع الناخبين باختيارات محددة للمتنافسين (برامج أشخاص أو أحزاب..)، و(3) جذب أصوات الناخبين لأشخاص محددين أو برامج معينة أو لكليهما معا يوم الانتخابات.. هذا بجانب عدد من الوظائف الأخرى، فالدعاية هي أداة من أدوات محاسبة السياسيين والتفضيل بينهم من خلال التعرف على آرائهم وبرامجهم قبل الانتخابات، وهي وسيلة من وسائل ممارسة التنافس السياسي بطرق سلمية، كما أنها واحدة من آليات التثقيف السياسي للناخبين.. يتم ذلك في الدول الديمقراطية باستخدام أدوات الإتصال الشخصي المباشر ووسائل الإتصال المكتوب والمرئي والمسموع والإلكتروني، وذلك ضمن ضوابط أخلاقية وأطر دستورية وقانونية محددة ومنصفة ومتفق عليها بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين، أهمها: حكم القانون والمساواة أمامه – ضمانات للتنافس السياسي الحقيقي– الحريات السياسية والإعلامية وأهمها حريات التعبير والاجتماع والنشر والحركة وتشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن السلطة كالأحزاب السياسية – المواطنة الحقيقية – الاستقلال الحقيقي للقضاء – بالإضافة إلى المتفق عليه من آداب وضوابط وما يقره القانون من قواعد وإجراءات.. في مصر، للدعاية وظائف أخرى، تكشف عنها معظم الانتخابات التي شهدتها مصر في السنوات الماضية، وتكشف عنها الانتخابات الحالية لمجلس الشعب، ومنها: أولا: إفساد قطاعات من الشعب واستغلال فقرهم وانخفاض مستوى الوعي لديهم وذلك من خلال ترتيب عمليات حشد جماعي لممارسة التصويت الجماعي لصالح الحزب الحاكم، وذلك بدلا من إجراء دعاية انتخابية حقيقية لاقناع الناخبين وجذب أصواتهم بشكل تنافسي وديمقراطي. ثانيا: دغدغة مشاهر الجماهير بإطلاق وعود انتخابية بتوفير فرص عمل ورصف الطرق وإنشاء المدارس والوحدات الطبية وتقديم خدمات الصرف الصحي، ويتم هذا في إطار ترويج البعض لما يعتبرونه إنجازات سابقة للحكومة. ثالثا: استخدام الدعاية الانتخابية لبعض مرشحي الحزب الحاكم لإقصاء مرشحي جماعة الإخوان المسلمين وذلك في إطار الصراع الدائر بين الطرفين منذ عقود. وفي هذا تجيير للعملية الانتخابية برمتها لصالح ذلك الصراع. رابعا: التأثير بالسلب على عملية التثقيف السياسي للناخبين وحصر الدعاية الانتخابية في أمور جدلية كشعار الإخوان أو حول وعود بتقديم الخدمات أو حول النزاعات على عمليات الترشح في ساحات القضاء. خامسا: التأثير بالسلب على عملية التجنيد السياسي للمرشحين لمقاعد السلطة التشريعية في البلاد، وذلك من خلال تشديد قيود الترشح أمام أحزاب المعارضة والمستقلين والإخوان ومحاولة تشويه صورة من يترشح منهم خلال فترة الدعاية. سادسا: وبمناسبة التجنيد: اخترع الحزب الحاكم ظاهرة جديدة هي استخدامه البلطجة لقمع المرشحين المعارضين. وللأسف الاستخدام المكثف لهذه البلطجة ظاهرة مبتكرة في مصر، فالعنف بين أنصار المرشحين أمر شائع في دول مختلفة ويقوم الأمن بالتعامل معه وفض إشتباكات أنصار المرشحين، لكن الجديد عندنا هو استخدام عناصر من أصحاب السوابق ضد معارضي الحزب الحاكم تحت حماية أفراد من الأمن.. في واقع الأمر الحزب الحاكم غير مؤهل وغيرقادر على القيام بدعاية انتخابية حقيقية، لعدد من الأسباب، أولها: سجل الحزب الضعيف في القيام بالوظائف المتعارف عليها للحكومات. فخلال أكثر من ثلاثين سنة من حكم الحزب الوطني ، تم إفساد قطاعات واسعة من الناس وتجهيلهم وتسطيح عقولهم من خلال مدراس وجامعات وقنوات إعلامية متخلفة، وتم القضاء على الكثير من مؤسسات الدولة في قطاعات مؤثرة وحلت العشوائية والإرتجالية في الإدارة، وتراجعت الخدمات في كثير من قرى ومدن مصر.. وثانيها: لأجل إبقاء سيطرة الحزب وهيمنته، تم اقحام قطاعات من مؤسسات الدولة الوطنية في خصام مع الشعب، وعلى رأس هذه المؤسسات: الشرطة والجامعات والقضاء.. وتستخدم هنا أدوات ترهيب وترغيب مبتكرة ومتجددة ومتنوعة.. والضحية هنا هو الشعب المصري ومستقبله.. وثالثها: سياسة خارجية ضعيفة أدت إلى تآكل الدور المصري في الخارج وضعف المواقف المصرية في قضايا أمن قومي مصيرية بالنسبة لمصر: فلسطين – السودان – مياه النيل – التسلح في المنطقة. عن ماذا سيدافع الحزب إذا أجرى دعاية حقيقية؟ ما تبقت إلا القرى السياحية التي يرتادها أقل من 5 في المائة من المصريين.. وما تبقت إلا المشاريع الإستثمارية التي يستفيد منها بعض رجال الأعمال المتحالفين مع الحزب وشريحة بسيطة من المصريين.. ما تبقت إلا تحالفاته مع الولاياتالمتحدة واعتماده عليها.. وما تبقت إلا أنابيب الغاز المدعم إلى الكيان الصهيوني وسجل التطبيع في بعض القطاعات.. ما الحل؟ تحتاج البلاد إلى إقرار قانون ينظم تمويل الحملات والدعاية الانتخابية من الألف إلى الياء ويحدد لها القواعد والضوابط الضرورية. على أن تتوافق هذه القواعد والضوابط مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية لقطاعات واسعة من الجماهير، وأن تعمل على تقليل (أو تحييد) الدور السلبي للمال الانتخابي وسيطرة بعض رجال الأعمال.. ويجب أن يتم هذا في إطار خطة إنقاذ وطنية تعمل على وضع دستور ديمقراطي حقيقي ونظام انتخابي عادل وفعّال، وتنشئ سلطة رابعة مستقلة للانتخابات. وعلى هذه السلطة الرابعة وضع مدونة للسلوك وللمعايير الأخلاقية والمهنية للدعاية الانتخابية وخطة منظمة ومدروسة لمراقبة الدعاية الإعلامية والتغطية الإعلامية للانتخابات تتجاوز الأساليب غير العلمية الشائعة الآن، ويقوم بها خبراء أكْفَاء.. كما أن هناك حاجة إلى وضع ميثاق شرف للعمل الصحفي والإعلامي يحدد المسؤولية الأخلاقية والمهنية لوسائل الإعلام المسموع والمرئي والإلكتروني في تعاملها مع شؤون الانتخابات، وذلك في ضوء الكثير من المظاهر السلبية للإعلام وعدم الدقة وضعف الأمانة في نقل الأحداث وضعف المعرفة بأبجديات الكتابة الصحفية والاقتباس وأسس النحو وتركيب الجمل في التحرير الصحفي والتغطية الفضائية.. وعلى سلطة الانتخابات الرابعة وضع وتنفذ خطة وطنية للتثقيف السياسي والتربية على ثقافة المواطنة والحقوق والواجبات، خطة تزرع لدى الموطنين الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية، وتتسم بالموضوعية والحياد ولا تتجاوز مقومات هويتنا العربية والإسلامية. وذلك من أجل إعادة ثقة المواطن في السياسة وفي كل ما يتصل بها من ممارسات ومؤسسات، وتحفيز المواطنين على المشاركة في العمل العام والسياسي على جميع المستويات المحلية والمجتمعية والوطنية. * أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net