مثل رحيل البرلماني العتيد والوزير السابق كمال الشاذلي الأسبوع الماضي حدثا لافتا في مصر ، على الرغم من انزوائه فعليا عن الحياة السياسية خلال السنوات الخمس الأخيرة على الأقل بعد أن تم خروجه من الوزارة ومن أمانة التنظيم في الحزب الحاكم بتكريم الدولة لمشواره الطويل في خدمتها من خلال تعيينه رئيسا للمجالس القومية المتخصصة . وكمال الشاذلي رحمه الله نموذج لرجل الدولة التقليدي في مصر ، أو النمط الذي يمثل "التكنوقراط السياسي" المعتمد في إدارة شؤون الدولة المصرية طوال الستين عاما الماضية ، وهو نمط يتم تصنيعه وتطويره وترويضه داخل أجهزة الدولة ذاتها ، الأمنية والسياسية ، وغالبا ما يتم بدء عملية التصنيع منذ مراحل مبكرة في حياة "الشخصية" الجامعية أو عقب تخرجه ، ولذلك لن تجد الأمر مثيرا للغرابة أن رموز الدولة المصرية الذين أداروا شؤونها البرلمانية والحزبية والرئاسية والديبلوماسية منذ أواسط الستينات وحتى الآن هم من أولئك المبتعثين الذين خرجوا على نفقة الدولة بعناية خاصة لاستكمال دراساتهم في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا ، ومن بعد ذلك في الولاياتالمتحدة . عملية تجهيز "رجل الدولة" في مصر تهتم بشكل أساس بانعدام الموقف السياسي للشخصية ، وانحسار الرؤية الوطنية حول ذاته وطموحه ، لأنه يتم تجهيزه لكي يكون متلقيا للتعليمات وليس صانعا لها ولا مراجعا ، ومنفذا للتوجيهات وليس آمرا بها ولا سائلا عن معناها ، وقادرا على أن يؤدي الدور المطلوب منه أيا كان بغض النظر عن الموقف الإيديولوجي أو السياسي من القضية التي يتصدى لها ، وكان وزير الخارجية المصري الحالي أحمد أبو الغيط يفخر بأنه قال لوزير الخارجية الأسبق عصمت عبد المجيد أنه غير مقتنع بمبادرة السلام التي قادها الرئيس السادات ولكنه مستعد لتنفيذ أي تعليمات مطلوبة ، أي أن مساره السياسي هو مسار وظيفي بحت ، يمكن أن ينفذ الأمر ونقيضه في لحظة واحدة أو في لحظتين مختلفتين ، دون أن يهز ذلك شعرة في ضميره أو يحدث أي اضطراب في مسيرته الحياتية . وعملية تصنيع رجل الدولة في مصر من ثم عملية غير سياسية ، كما أنها لا تتصل بفكر أو دين أو فلسفة ، فقط تحتاج إلى تلك الطاعة العمياء والكاملة لصاحب القرار أيا كان هو وأيا كان قراره ، ولذلك تجد في هذه الأنماط الشخصية الماركسية والشخصية الليبرالية والشخصية الإسلامية بمفهومها التنظيمي السابق كأشخاص كانت لهم انتماءات لحركات إسلامية ، كما تجد الشخصية المسيحية ، لأن معيار الانتقاء يتصل بما قبل الأفكار وما قبل الهويات ، بجوهر الشخصية واستعداداتها الأخلاقية والنفسية . ورجال الدولة لا يمكن صناعتهم خارج محاضن الدولة ومؤسساتها السلطوية ، بمعنى أنه لا يمكن اختراق أحد تربى في محاضن أخرى تنظيمية أو معارضة أو مستقلة لجيش تكنوقراط السياسة الرسمية ، نعم يمكن الاستعانة بخدمات بعض السياسيين ورجال الأحزاب أصحاب الطموح الانتهازي في مواقف محددة أو مناورات مطلوبة أو خطط مرحلية لضرب بعض الجهات المقلقة ، لكنهم لا يصلون لأبعد من ذلك ، لا يكونون أبدا جزءا من "رجال الدولة" وأعمدتها أو تكنوقراط السياسة الرسمية . لذلك تجد تقلبات هذه النماذج بالغة الغرابة أحيانا ، فهو يخدم نظاما اشتراكيا بكل إخلاص وتفاني ويخطب في الجموع ويحشد الحشود كما لو كان كارل ماركس ، ثم بعد سنوات تجده بنفس الحماسة ينتقد ويشرح النظام الاشتراكي ويرى أن نقيضه الانفتاحي الرأسمالي هو الإنقاذ لمصر ، ويخطب ويكتب ويحلل ويحشد الحشود للرؤية الرسمية الجديدة ، وفي مرحلة تجده مهاجما للتيار الديني ومطالبا بسحقه وقطع دابره وفي مرحلة تالية تجده هو نفسه مرحبا بالتيار الديني ودوره في "إثراء" الحياة السياسية لأن صاحب القرار والدولة رأى ذلك ، وتجده دائما في قلب الكتلة السياسية المعبرة عن القرار السلطوي الرسمي ، أيا كان مسماه ، التنظيم أو الاتحاد أو المنبر أو الحزب ، لأنه في الحقيقة يدرك أنه لم ينتقل من الكتلة الرسمية وإنما هو يتماشى مع أسماء جديدة لمعنى واحد أراده صاحب الدولة والقرار . بطبيعة الحال ليست هذه رؤية نقدية للمرحوم كمال الشاذلي أو غيره ، أبدا ليس هذا مقصدي ، وإنما المقصد هو لفت الانتباه إلى أن مصر طوال الستين عاما الماضية لم تعرف حياة سياسية بالمعنى المفهوم ، وبالتالي لم تعرف سياسيين أيضا بالمعنى المفهوم ، وإنما هي دولة الرأي الواحد والحزب الواحد والحاكم الواحد والطموح الواحد ، يديرها موظفون وتكنوقراط سياسيون ، اختارهم صاحب الدولة ولم يختارهم شعب ، وهم لا شأن لهم بالسياسة إلا من باب واحد ، وهو تنفيذ التعليمات وتخريجها بشكل ملائم قانونيا وإداريا لخدمة صاحب القرار الوحيد والرأي الوحيد . [email protected]