كان كمال الشاذلي سياسياً مختلفاً.. كم كنت أتمني لو أنه كتب مذكراتة قبل أن يتوفاه الله بالأمس بعد عناء مع المرض.. إذ لو كان قد فعل لكان قد دوَّن مرحلة مهمة من تاريخ مصر الحزبي.. ولكان هذا قد خضع لتحليل علمي وتاريخي واجب.. سواء اختلفت أو اتفقت مع منهجه. أخلص كمال الشاذلي لفطرته.. وكان ولاؤه عظيماً للنظام الذي ينتمي إليه.. وأدي واجبه بالطريقة التي وجد أنها صحيحة.. وإذا كان تطور العصر قد أدي إلي حتمية اللجوء لأساليب أخري.. فإن هذا لا ينفي أن الراحل المتميز كان له دور، وكان له مبدأ، وكان له موقف، وكان يدافع عما يفعل بطريقة لها مبرراتها لديه. في السنوات السبع الأخيرة، تفاعلت مرات مختلفة مع أمين التنظيم السابق في الحزب الوطني، ووزير الدولة للشئون البرلمانية، قبل أن يصبح رئيساً للمجالس القومية المتخصصة، ودارت بيني وبينه نقاشات مختلفة، بقدر ما كان يمكن أن يحدث بيننا من تلاقٍ.. ولعلّي اختلفت معه.. ولعلّي انتقدته.. ولعلّي هاجمته.. لكنني بالتأكيد كنت أحترمه.. فهو يؤمن بما يفعل.. ويصر عليه إلي أن يكُلف بغيره.. وقد قلت له ذلك خصوصاً في إحدي المرات التي جمعتني معه علي سحور رمضاني في مطعم نيلي قبل ثلاث سنوات. انتمي الشاذلي إلي مدرسة عرفتها مصر في السنوات الأربعين الماضية، تربت كوادرها في الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الذي أنتجته سنوات الثورة، وهو كيان يجوز جداً أن تشن انتقادًا علمياً عليه الآن.. لكنه كان ابن مرحلته وظروفها.. وهو المؤسسة التي قدمت لمصر عشرات من الكوادر التي قامت عليها الحياة الحزبية التعددية فيما بعد.. بحيث إن تلك الكوادر ظلت مؤثرة وموجودة ولها دور في مختلف الأحزاب.. وقد مضي وقت طويل قبل أن تتمكن مؤسسات بديلة من أن تطرح نماذج مختلفة لها أساليب جديدة. كان الشاذلي يعتز برحلته تلك، ومثل شخصياً نوع التطور الذي طرأ في مراحل مختلفة علي الحياة الحزبية المصرية، منذ نهاية الخمسينيات، وعبَّر بمزيج من الفطرة والخبرة العريضة عن طراز من السياسيين الذين تمكنوا من فرض الاحتياج إليهم سنوات طويلة.. واستند - دون كثيرين غيره- إلي المنهج العائلي في تقييم العلاقات وخلفيات الأفراد، بحيث كان موسوعياً في معرفة الترابطات الأسرية والقبلية في مختلف أنحاء مصر.. لكنه احتفظ بخبرات هذا كله في داخله. كما كان برلمانياً عريقاً، لم يترك مقعده منذ دخل مجلس الشعب قبل أربعة عقود، استنادا إلي ارتباطه الوثيق بدائرته (الباجور)، حيث دافع عن مكانه حتي اللحظة الأخيرة.. وقد انتبهت جيداً حين أرسل مؤخراً تعقيباً إلي جريدة الأهرام بشأن تقرير نشرته عن وجود منافس له في الدائرة.. وكان يمكنه أن يتجاهل ما نشر.. لأنه يثق فعلاً في التفاف الناس حوله.. رغم مرضه.. ولكن تلك المواقف هي في حد ذاتها- أي إرسال التعقيب - تعبر عن إصراره الذي لا ينتهي.. وتصديه لدوره حتي وهو في أشد حالات المعاناة. لقد كانت تدهشني التعليقات التي تنهمر علي موقع «روزاليوسف» من المنوفية، والباجور تحديدًا، حين نكتب خبراً عن كمال الشاذلي ورحلة مرضه.. وبالتأكيد لم أكن أتعجب من الدعوات التي يلاحقه بها ناخبوه.. ولكن ما يثير الدهشة هو حرص الناس علي أن يعلنوا ذلك وتأكيدهم عليه.. وهو ما يعبر عن أنه كانت بينه وبينهم جسور وطيدة. أذكر جيداً مناقشة دارت معه في غرفة عمليات الحزب الوطني في انتخابات الرئاسة في عام 2005، وأذكر تماماً أني كتبت عموداً انتقدت فيه مظهراً ما كان يقوم به، وأنه فيما بعد قال لي: أنت كنت تقصدني.. أقررت له بذلك رغم أنني لم أشر إليه من بعيد أو قريب.. واستمر الحوار.. الذي كان يتكرم بأن يضيف إليه اهتماماً شخصياً في المناسبات.. كما في توقيت الأعياد الحالية فيتكرم هو بالاتصال.. ويهنئني.. دون أن ينسي أن يعلق علي تقارير الزميل إسلام كمال باعتباره محررًا مختصاً بشئون الحزب الوطني. وفيما بعد، وحين أصبح كمال الشاذلي رئيساً للمجالس القومية المتخصصة، ظن بعض الناس أنه سوف يتعامل مع الأمر علي أنه موقع تكريمي أخير ليس شرطاً أن يقوم فيه بأي دور.. لكنه حرص علي أن يدير العمل بإصرار.. وأن يثابر علي مهمته.. وأن يؤكد أهمية تسويق منتوج المجالس.. وتفعيل جلسات لجانها.. وأظنه كان يتصل بالشخصيات العامة بنفسه، مؤكدا علي أن تحضر المناقشات وتضيف إليها من إسهامها في الأفكار المتداولة . كمال الشاذلي رحلة طويلة، شديدة الثراء، وخبرة عريضة، ولذا أعتقد أنه لو كان كتب مذكراته.. لكنا قد حققنا فائدة كبيرة.. سواء اختلفت أو اتفقت معه.. رحمه الله وألهم أسرته الصبر والسلوان.. وعوض ناخبيه عنه بالخير . الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]