في الأسبوع الماضي عقدَ معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم بالتعاون مع مركز دراسات المجتمع ندوةً هامَّة وكاشفة عن دول الجوار للسودان وحق تقرير مصير الجنوب.. شاركَ في الندوة التي حظيَتْ بتغطية واسعة, أساتذة وباحثون من دول عدَّة وشهدتْ حضورًا نوعيًّا أثرى النقاش وانشغل بتدقيق وتمحيص المقولات والتحليلات التي طرحتْ, حيث حفلَت الندوة بأوراق هامَّة عن مواقف كينيا وأوغندا وإثيوبيا وليبيا ومصر.. وكان من نصيب كاتب السُّطور أن يقدِّم ورقة موجزة تستعرضُ الموقف المصري، وتسعى إلى بيان المراحل والتطوُّرات التي مرَّ بها وتحاول تحليل الدوافع والأهداف. استعراضُ ما دار في هذه الندوة يستحقُّ عرضًا منفصلًا, سوف نقدِّمه في موضع آخر إن شاء الله, إذ نعرض في هذه العجالة محدداتِ الموقف المصري من مسألة حق تقرير المصير، باختصار نقول أنَّه من الثابت أن موقف مصر كان على الدوام يتحفَّظ على حقّ تقرير المصير باعتباره مدخلًا لحلّ الأزمة السودانيَّة, وكانت مصر ترى أن إقرار وتطبيق مبدأ المواطنة المتساوية بدون أي تمييز بسبب العِرق أو الدِّين أو اللون هو المدخل والقاعدة الصحيحة التي تنبني عليها أي مقترحات لإنهاء الأزمة السودانيَّة مع الحفاظ على الوحدة، غير أن تفاعلات الداخل السوداني وحالة الديالكتيك التي مرَّت بها مراحل التعامل مع حقّ تقرير المصير للجنوب, والتي بدأت بمناورة تكتيكيَّة عام 1992 تطورتْ لكي تصلَ في نهاية المطاف إلى توقيع بروتوكول ماشاكوس في 20 يوليو 2002 والذي التزمتْ فيه الحكومة السودانيَّة بمنْح هذا الخيار للجنوبيين في اتفاق ملزِم برعاية أمريكيَّة, وكما هو معروف فقد كان "ماشاكوس" هو القاعدة التي انطلقتْ منها وبنيت عليها اتفاقية نيفاشا بأكملها. أمام هذه التطوُّرات المتسارعة تحوَّل الموقف المصري إلى دعم فكرة الوحدة الجاذبة, عَبْر تطوير التعاون الذي كان من قبل مع جنوب السودان, إلى سياسة تعاونيَّة تنمويَّة؛ سعيًا لجعْل الوحدة جاذبةً, مع العمل لدعم الوحدة والحفاظ عليها إلى آخر دقيقة, وإن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن, سيكون ذلك رصيدًا للتعاون مع دولة الجنوبالجديدة, التي يجب السعي لأن تكون علاقتها مع دولة الشمال ومع مصر علاقة تعاونيَّة, فهذا هو أساس الاستقرار المنشود, ولعدم ترْك الساحة خاليةً أمام دول أخرى تتربَّص الدوائر بشمال السودان ومصر وبالأخصّ إسرائيل, وأيضًا لأن التعاون مع جنوب السودان مطلوبٌ من أجل قضايا المياه. هذا الطرح يبدو أنه غير واضح لدى بعض الأخوة في داخل السودان, أو ربما يثير لدى البعض تصوُّرات لا أساس لها في الواقع, على أنَّ مصر لديها ما تُخفيه أو أنها ترى في تقسيم السودان مصلحةً لها, وكل ما يسندون به هذا الرأي هو القول بأن مصر لا تقدِّم الدعم الكافي.. وإذا أحببنا أن نفحص هذه المقولات أو منطلقاتها, نجد أنها تنطلقُ من منطق ساذج يتَّسم بالتبسيط المخِلّ, تمامًا مثل موقف دعاة الانفصال في الشمال الذين يملئون الدنيا ضجيجًا, ويخلقون أجواء مسمومةً, وكل مقولاتهم تنطلق من تصوُّر يرى أن الدولة السودانيَّة مثل "قطعة البيتزا" سوف يتمُّ اقتسامها بين الشمال والجنوب, ثم يذهبُ كلٌّ إلى حال سبيله لكي يؤسسَ دولته الخاصة "النقية".. كل منهم حسب تخرصاته وأوهامِه. إن السودان نسيجٌ متداخل مهما ارتفع الصياح هنا وهناك بالدعوة للجهويَّة أو القبلية وغيرها، وهذا الصياح هو في حقيقته دعوة للإصلاح وإعادة النظر, ولكنه بحكْم آليتِه الداخليَّة الخاصَّة المحمَّلة بالمشاعر الأوليَّة والنزعات الشخصيَّة يتحوَّل إلى دعوة للهَدْم والتشرذُم, حتى يأتيَ فيه صباح يعضُّ فيه الجميع على بنان الندم بعد أن يكونوا قد "خربوا مالطة" ومصر لا يمكنها أن تتصرَّف طبقًا لهذا الفهم المعوجّ الذي ينخرط فيه البعض, وقد برهنت على ذلك طوال الوقت, حتى في أحْلَك لحظات التدهور التي مرَّت بها العلاقات بين البلدين في عقد التسعينيَّات, ونشير هنا إلى مثالين فقط، فقد رفضتْ مصر توقيع عقوبات اقتصاديَّة في مجلس الأمن على السودان في عام 1997, إثر حادثة أديس أبابا, ووقفتْ حائلًا دون ذلك (باعتبارها المتضرِّر الأساسي في هذه الحادثة) لكي لا تعرّض الشعب السوداني للضرَر, ولكي لا تهزَّ استقرار الدولة السودانيَّة رغم الخلاف المستحكم الذي كان قائمًا آنذاك، وفي حالة أخرى تعبّر عن نفس هذا المعنى وإن كانت من اقتراب مختلف, نذكرُ محاولة تخريب الخطّ الناقل للنفط في شرق السودان, والتي قام الفريق عبد الرحمن سعيد بإعلان المسئوليَّة عنها من القاهرة.. كان ردّ الفعل الفوري هو الطلب إليه مغادرة البلاد بأسرع وقت. وبالتالي فإن مصر لا يمكنُها المجازفة بقضيَّة مثل حق تقرير مصير الجنوب, أو بالأحرى انفصاله, بمثل هذه الدرجة من الاستخفاف أو المقامرة التي يتصوَّرُها البعض؛ فاستقرار السودان ووحدتُه أمران يتطابقان مع مصالح الأمن القومي المصري، ويبدو أن بعض الإخوة في السودان يقعون في تناقضٍ هائل بين الحساسية المفرِطة مما يتصوَّرون أنه تدخُّل مصري في شئونهم, وبين إلقاء اللَّوْم عليها بعد ذلك لأنها قصَّرت في العمل بشأن هذه القضيَّة أو تلك, وكأنها كانت الطرف المخوَّل بالتصرُّف في هذا أو ذاك.. هذه بطبيعة الحال تصوُّرات غير صحيحة على الإطلاق, ولكن البعض يعجزُ عن أن يرى الواقع, فيطلق العنان لتصورات أو هواجس ما أنزل الله بها من سلطان، كما أنَّه من الواضح أن لا مصر ولا غيرها يستطيع أن يجبر طرفًا ما أو فئةً بعينها على سلوك هذا الطريق أو ذاك, فهذه التطوُّرات والتفاعلات هي قضايا داخليَّة سودانيَّة ذات طابع سياسي اقتصادي ثقافي لا يمكن تغييرُه هكذا, وهي حصيلةُ مسارٍ طويل من تفاعلات الداخل السوداني بقواه السياسيَّة ونخبه وقادته, وكل ما يمكن أن تقوم به دولة شقيقة للسودان مثل مصر, يبقى عاملًا مساعدًا وثانويًّا، ولكنَّه ليس الذي يقرِّر وليس الذي يحدِّد المسار, وهذا ينطبق أيضًا على كل جيران السودان والقوى الإقليميَّة المتدخِّلة سلبًا أو إيجابًا، وهذا هو نفسُه ما أشار إليه ملس زيناوي رئيس وزراء إثيوبيا في كلمتِه القصيرة والإيجابيَّة في اجتماعات نيويورك الأخيرة الخاصَّة بالسودان. المصدر: الاسلام اليوم