(من الآن فصاعداً، صار اختيار خليفتي أهم قرار سأتخذه، وهذا يشغل جانباً كبيراً من تفكيري، ولا يكاد يمر يوم دون أن أفكر في هذا الأمر). مقولة شهيرة أطلقها (جاك ولش) رائد التغيير المؤسسي والمدير التنفيذي في شركة (جنرال إليكتريك)، وهو يتحدث عن (خطط خلافة الإدارة) في سنة (1991م)!. والأعجب في أمر هذا الرجل أنه أطلقها قبل موعد تقاعده بتسع سنوات!!!؟. ومن قبله كان معلمه (ريجينالد جونز) المدير العام التنفيذي لشركة (جنرال إليكتريك)، قد وضع وثيقة أسماها (خريطة طريقة خلافة مدراء العموم التنفيذيين)، عام (1974م)، واتبع طريقة منهجية طويلة ومجهدة لمدة (7) سنوات لاختيار المرشحين الصالحين، فاختار(96) مرشحاً، ثم أجري عملية تصفية حتى أصبحوا (12)، ثم خفضهم في تصفية ثانية إلى (6)، ثم عينهم فترة طويلة يمارسون فيها شؤون الإدارة، تحت المراقبة، ثم اختار قرار اختيار أحدهم قبل سنوات من التغيير، عن طريق إجراء (مقابلات الطائرة)؛ فكان يسأل كل مرشح: (قمت أنا وأنت برحلة بالطائرة، فتحطمت الطائرة، وقتل كلانا، فمن يصلح لأن يكون رئيساً؟). وفاز في هذه المنافسة الحامية عن جدارة (جاك ولش)، أما الآخرون فقد تولوا رئاسة شركات أخرى رائدة!؟. أي أن كفاءاتهم وإمكاناتهم، والخبرة التي تلقوها في دورات الخلافة الإدارية؛ لم تذهب سدى؛ فلقد فتحت لهم طرق المجد والريادة!؟. ما معني الشركة الرائدة؟!: ولذلك فإن علماء الإدارة يقيسون ريادة الشركات العالمية الرائدة، بمعايير منهجية ثابتة، وشروط إدارية محكمة؛ يسمونها (المعايير الست للريادة والتميز). فحتي تحكم على شركة بأنها رائدة؛ لابد من أن تحقق هذه المعايير الست!؟. فطبقوها ووجدوها تنطبق على (18) شركة عالمية!؟. من هذه ال(18) كان هناك (17) شركة أمريكية؛ وهي (3M) وجنرال إليكتريك و(IBM) وفورد وأمريكان إكسبريس وسيتي كورب وهيوليت باكارد وجونسون أند جونسون وماريوت وميرك وموتورولا ونورستورم وفيليب موريس وبروكتر أند جامبل وولت-مارت ووالت ديزني وبوينج. أما الشركة الوحيدة الخارجية؛ فهي شركة سوني اليابانية!!!؟. فما هي هذه المعايير الست للريادة والتميز؟!: إنها الشروط الست القاسية؛ والتي يضبطها جميعاً شعار (حافظ على الجوهر وحفز على التقدم)!؟. أي حافظ على القيم والثوابت والغرض الأساسي والأيديلوجية التي أنشئت من أجلها الشركة!؟. وحفز على التغيير في الممارسات الثقافية والتشغيلية، وشجع على التجديد والتطوير المستمر!؟. 1-الريادة: أي الأولى في مجالها. 2-الاحترام والتقدير: أي يكن لها أهل دنيا الأعمال إعجاباً شديداً. 3-التأثير: أي تركت آثاراً لا تُمحى على العالم الذي نعيش فيه، وغدت جزء من نسيج المجتمع. 4-التجديد والتطوير: أي مرت بدورات حياة متعددة للمنتج أو الخدمة؛ تنفيذاً لشعار (حفز على التقدم). 5-العراقة: أي أُنشئت قبل عام (1950م). 6-الاستمرارية: أي كان لها أجيال متعددة من كبار المدراء التنفيذيين؛ تنفيذاً لشعار (احفظ الجوهر). ويعد المعيار الأخير هو أهمها، من حيث قدرة تلك الشركات والمؤسسات على الاستمرار جيلاً بعد جيل، بل وبكوادر داخلية؛ دون الحاجة أو البحث عن منقذ خارجي؛ ودون تغيير في قيم وخطط الشركة!؟. فالقادة يموتون وتبقى شركاتهم، متجاوزة ذهاب أي قائد فرد!؟. ولهذا يقول (وليام آر. هيوليت) الذي شارك في تأسيس شركة (هيوليت باكارد): (عندما أنظر إلى ما أنجزته في حياتي، فإن أكثر ما يجعلني أشعر بالفخر والزهو؛ هو مساعدتي في إنشاء شركة كان لقيمها وممارستها ونجاحها؛ أثر هائل على إدارة الشركات في جميع بقاع الأرض، وأشعر بالفخر بصورة خاصة؛ لأنني أترك مؤسسة خالدة يمكن أن تبقى كقدوة لمن يقتدي بعد فنائي). هؤلاء هم ... فأين نحن؟!: هذا بعض ما قرأته بإعجاب، ونهم وشغف في الكتاب الإداري الممتع والأكثر مبيعاً في العالم؛ وهو [البناء من أجل الاستمرار العادات الناجحة للشركات الرائدة (BUILT TO LAST) للمؤلفين البارزين: جيمس سيز كولنز وجيري آي. بوراس والذي يقع في أكثر من (600) صفحة، والذي أصدرته مكتبة جرير بالرياض في الطبعة الأولى عام 1999م]. حتى أنني في بعض المرات كنت أنسى مع هذا الكتاب الرائع موعد الطعام من فرط ذهولي، ومن فرط إعجابي به!؟. ولكنه ويا للأسف قد أصابني بهذا الهم الإداري والمؤسسي العميق!؟. وهو ما أصابني أيضاً بالحسرة والحزن على واقع أمتنا وعلى مستقبلها!؟. وقلت في نفسي: هذا جانب يظهر جدية هؤلاء الناس، وحرصهم على الاتقان والإحسان. وهذه بعض الإجابات على سؤالنا الخالد والحائر: ما سبب تقدمهم علينا وريادتهم الحضارية!؟. فهؤلاء هم؛ فأين نحن؟!. سر فسادنا المؤسسي!؟: ثم شعرت مدى العشوائية التي نراها تعشش في أمورنا الإدارية وكل شؤوننا المؤسسية، بل والتربوية أيضاً!؟. خاصة فيما يتعلق بقضية التوريث، وتأهيل الكوادر القيادية، وبناء الصف الثاني!؟. وتأمل كيف تتم عندنا عملية نقل السلطة من جيل إلى جيل!؟. فهي إما أن تتم عن الطريق الثوري الانقلابي الدموي، أو عن طريق المجاملة أو التزوير أو الاغتصاب!؟. وليتنا نسمع مرة حولنا أن عملية التوريث تتم بهذه الطريقة الرائعة والحضارية؛ التي صنعها هؤلاء الرواد!؟. فهذه بعض أسرار فسادنا المؤسسي والإداري!؟. وهذه بعض من هموم الحالم المسكين: د. حمدي شعيب