بصراحة لم يكن احد منا يعرف بالضبط من هو صاحب عمارتنا؟! ولم يكن هذا غريبا فالعمارة عتيقة يرجع تاريخها الى زمن بعيد. لكن القضية كانت بحق مثيرة للجدل والأخذ والرد بين السكان! فالاسطي بشاي ساكن البدروم يقول ان العمارة مملوكة في الاصل لجده المقدس اسطفانوس، ويستدل على هذا بالصليب المنحوت فوق باب شقته! والحاج محمد ساكن السطوح يقول انها ملك جده الشيخ العاصي مستدلا بالهلال المحفور على مدخل العمارة! أما برعي السمسار ساكن الجراج فيؤمن عن قناعة بان صاحب العمارة هو الخواجة شيكوريل الذي هاجر الى اسرائيل عام 48 وان الخواجة سوف يأتي يوما لاستلام عمارته !! ووسط كل هذه النظريات كان الأستاذ مرجان مدرس التاريخ العجوز المقيم في الدور الرابع يرى ان عمارتنا اقدم من كل هؤلاء! فقد تعاقب على ملكيتها أروام ويونان وفرس وغجر وقوقاز وأتراك وألبان بل ان نقوشا في مدخل العمارة تشير الى أن ملاكها الاوائل كانوا من أهالي النوبة السمر الطيبين! ومع احتدام الجدل حول هذه القضية تعامل معنا سكان العمارات المجاورة على اننا جماعة من المعتوهين. فعمارتنا قديمة قدم الزمان ذاته ولا يمكن نسبتها الى مالك واحد!! وبمرور السنين والاهمال وانعدام الصيانة اصبحت آيلة للسقوط. لكن انهيار العمارة لم يكن يقلقنا في ذروة بحثنا الدائم عن هوية صاحب عمارتنا!! بالطبع لم يكن احد فينا يدفع الايجار، وكنا جميعا نقيم مجانا في شقق توارثناها عن ىبائنا وأجدادنا! ولمن ندفع الايجار اذا كان صاحب العمارة مجهولا وليس له ورثة بالمعني الصحيح؟! ومع ان العمارة ليس لها سجلات فقد كنا نسدد بانتظام الضرائب والعوائد وفواتير الغاز والكهرباء والمياه! بل اننا انتخبنا أكثر من رئيس لاتحاد الملاك لكنهم لم يكلفوا خاطرهم برعاية شئون العمارة لانشغالهم دوما بالسفر والبيزنس والاستمتاع بالحياة!! لا يخلو تاريخ عمارتنا مثل سائر العمارت من خناقات بين السكان. احيانا بسبب لعب العيال وتفاهات الحريم واحيانا بسبب معاكسات البنات وسقوط مياه الغسيل من البلكونات. لكن الحياة كانت تمضي مملة رتيبة حتى جاء يوم فوجئنا فيه بهروب ابنة الاسطى بشاي في ظروف مازالت غير مفهومة. وكاد الأمر يتحول الى كارثة لولا ان البنت عادت في ظروف غامضة ثم اختفت في مكان مجهول. وبعد شهور فوجئنا بوائل الابن الاصغر للحاج محمد يهرب الى جهة غير معلومة ثم تبين انه هرب الى قريب للاسطي بشاي في تلك المدينة الساحلية البعيدة بعد ان وفر له عملا ومسكنا ووعده بالزواج ! بصراحة تسببت الحادثتان في تعكير الاجواء داخل عمارتنا لكن العقلاء حاولوا التهوين مما جرى باعتباره لعب عيال! وذات يوم كئيب اندلعت خناقة بين زوجة الاسطى بشاي وحرم الحاج محمد حول كوم الزبالة الموجود أمام العمارة، فوقف عم بشاي على بسطة السلم واطلق سيلا من العبارات القاسية. ثم قال: هل نسيتم انكم مجرد ضيوف في عمارة جدنا الراحل المقدس اسطفانوس؟؟! وكمن اشعل فتيلا في برميل بارود. خرج غالبيتنا نحن السكان بالبيجامات والجلاليب في حالة واضحة من الذهول. أخذنا نتساءل كيف نكون ضيوفا في العمارة التي نقطنها منذ قديم. وثار الشباب وهدد العيال بامور صبيانية وذهبنا جميعا الى البدروم لمعاتبة الاسطى بشاي. فقال لنا بهدوء: نعم انتم ضيوف!!! فالعمارة مملوكة في الاصل لجدنا ونحن نملك المستندات ! كنا نعلم بالطبع ان المقدس اسطفانوس هو أحد ملاك العمارة القدامي لكنه لم يكن بطبيعة الحال المالك الوحيد! فالعمارة كانت مملوكة من قبله لجورجيان الارمنللي الذي اشتراها من يني الجريجي الذي اخذها تخليص حق من عثمان النوبي. وعندما طرحنا هذه الحقائق على الاسطى بشاي قال: ان جده اشترى العمارة من كل هؤلاء بعد ان دفع فيها دم قلبه!! وانها اصبحت منذ ذلك الوقت ملكا خالصا له ولآبنائه واحفاده من بعده!!! ولما كنا غير متعمقين بشكل كاف في تاريخ عمارتنا وقفنا ساهمين باستثناء حسبو افندي ساكن الدور السابع الذي تساءل : واين المستندات؟!! لقد باع المقدس اسطفانوس العمارة برضاه للشيخ العاصي الذي باعها للمعلم امية الذي خسرها في خناقة مع العمدة عباس ثم استولى عليها الفتوة سليم الاناضولي قبل ان يلطشها منه خواجه فرنساوي في لعبة قمار واخيرا وضع علوة الالباني يده عليها لتنتقل ملكيتها من شخص الى آخر عبر السنين!! ووسط هذه المتاهة من الحكايات والحواديت قال عم قنديل ساكن الدور الخامس والذي هو حاليا على المعاش: يا جماعة فلنستخدم المنطق ..اذا كانت العمارة مملوكة فعلا للمقدس اسطفانوس فكيف اعطى 94 شقة من عمارته للضيوف ولم يترك غير ستة شقق فقط لاولاده واحفاده؟؟!وهنا اعتدل الاسطى بشاي بعد ان كان متكئا وقال: ان ذلك حدث لأن جده كان كريما غاية الكرم مع الضيوف! بالطبع الاجابة لم تقنع احدا وهكذا افترقنا على امل الوصول يوما إلى حل يرضي كل الاطراف. لكن سحبا كثيفة من الغضب خيمت على عمارتنا. كانت المشاجرات تشتعل لاهون الاسباب. واصبحت التهديدات والشتائم لغة الحوار الوحيدة. وكان طبيعيا ان نصطبح كل يوم على خناقة بين العيال. وفكر البعض في اللجوء الى القضاء لاثبات ملكيتهم للعمارة لكن المشكلة كانت في غياب المستندات!! وفكر آخرون في الاستعانة بسكان العمارات المجاورة. وانتشرت افكار عبثية من قبيل الانعزال والتفكيك والاقصاء وسيطرت على العمارة حالة من الجنون! وذات يوم طرح اولاد الاسطى بشاي على ابيهم فكرة التقسيم لكن التنفيذ كان تقريبا شبه مستحيل! فالاسانسير والسلم ومواسير المياة والغاز والمنور والسطوح والجراج منافع مشتركة بين السكان. وحين هدد الحاج محمد باللجوء الى العنف معتمدا على الاغلبية العددية لوح الاسطى بشاي بالاستعانة بالبوليس. وهكذا دخلت العمارة في متاهة من التهديدات المتبادلة والضرب تحت الحزام. واستمر هذا الصراع المجنون زمنا لا يمكن تقديره حتى فوجئنا يوما برتل من سيارات الدفع الرباعي يقتحم حارتنا مثيرا عاصفة من الغبار، وحين نزلنا بالبيجامات والجلاليب لاستطلاع الموقف وفي مقدمتنا برعي السمسار وجدنا غرباء ذوي عيون زرقاء يقتحمون عمارتنا للاستيلاء عليها بدعوى أنهم اشتروها بعقد بيع رسمي مسجل في الشهر العقاري من الخواجة شيكوريل !!!