لاتكشف مأساة الطوفان التي تمر بها باكستان ( 175 مليون نسمة وسادس أكبر دولة في عدد السكان) عن دمار في البنية التحتية للدولة، بقدر ما تكشف لنا عن انهيار تام لمنظومة بناء الانسان الباكستاني،فقد جرفت أمواج الفيضان عن واقع مؤلم يجعل من البلاد مهيأة للانهيار الشامل والمستقبل المجهول. وأرجو من الله ألا تكون التقارير التي أوردتها صحيفة "الحياة" اللندنية أول أمس صحيحة حول تخوفات من عودة الجيش بانقلاب عسكري لوقف االشلل التام الذي تواجهه أجهزة الدولة. وذلك بعد الفشل الذريع لحكومة زرداي في إدارة أزمة الفيضانات، وانتشار الفوضى التي عرقلت وصول المساعدات للمنكوبين لأكثر من شهر من حدوث الكارثة. ونهب قوافل الإغاثة وبيعها في السوق السوداء. نقول هذا الكلام ليس للشماتة بأهلنا في باكستان، فصور الدمار الذي لحقت بعشرين مليون إنسان تقطع القلب. وتجعل المرء يقف خاشعا متصدعا من جبروت الماء، إذ هو يصبح كارثة تدمر كل شيئ بأمر ربها. قبل الطوفان المرعب المستمر منذ نحو أكثر من شهر، كانت هناك طوفانات أعتى وأشد على الكيان الباكستاني. ففي الوقت الذي استطاعت فيه الدولة بناء ترسانتها النووية لمواجهة التهديدات الهندية، عجزت باكستان وقوى المجتمع المدني المحلي فيها عن توفير مجتمع الأمان والاستقرار (يعيش 24% من مجموع السكان تحت خط الفقر حسب احصائيات 2009). كما فشلت الحكومات المتعاقبة من الانتقال بالمجتمع الباكستاني من مجتمع تقليدي متخلف إلى مجتمع حديث، بخلاف مجتمع مدينة (إسلام أباد) الغني في الشمال. وبلغ معدل البطالة في السنة نفسها 14% من مجموع القوة البشرية العاملة. هذا بالرغم من نجاح كل من الهند وايران، جارتي باكستان، من إقامة استقرار نسبي لمواطنيهما وتوفير مستوى من الخدمة العامة منذ تكوين الدولة الحديثة في كل منهما. لم تستطع النخبة الحاكمة منذ الاستقلال والانفصال عن الهند في 1947 في إيجاد تنمية حقيقية تتناسب مع خيرات البلاد التي تطوقها الثرات الطبيعية من كل جانب. فالأنهار تلبي حاجة البلاد الزراعية من المياه على مدار العام ( يقطع نهر السند باكستان من الشمال إلى الجنوب بطول يصل إلى ثلاثة آلاف كيلو متر). كما لم تستطع الدولة من بناء نظام تعليمي موحد يقي البلاد من التفكك الفكري الذي هو بيئة صالحة لقوى التطرف والإرهاب. هذه البيئة هي التي أوجدت جريمة تفجير مسجد خلال كارثة الطوفان الحالية. إذ قبل العيد بأيام، وبينما تتلاطم أمواج الطوفان على إقليم السند المنكوب، كان هناك هجوم على مسجد في كراتشي يودي بحياة 24 مصليا في رمضان. والمشهد لا يحتاج لتعليق لنفهم إلى أي مستوى من الفساد الشامل وصلت إليه البلاد. الفضيحة الأكثر إيلاما والتي فضحتها مأساة الطوفان هي الدور الرسمي الغبي في تدمير المؤسسات الخيرية والإغاثية المحلية تحت مسمى مكافحة الإرهاب. فعلى مدى عشر سنوات تزامنت مع الحرب على أفغانستان شنت الحكومة والجيش الباكستاني حرب تدمير شاملة على مؤسسات الإغاثة الأهلية. وهي تعد بالألوف وتكفل ملايين الفقراء في غالب المناطق الباكستانية وأقاليمها المترامية. فالعجز الرهيب في استقبال مساعدات الإغاثة سببه غياب هذه المؤسسات وتشريد أفرادها. الأمر الذي لم تتمكن فيه الحكومة من الاعتماد على أية جهة تقف معها في توزيع مواد الإغاثة. وحتى بعد إنزال الجيش للإنقاذ كان حجم المأساة أكبر من الاعتماد على الجهد الحكومي. على أن هذه الأوضاع لا تعفي الجوار العربي والإسلامي من ضرورة الدعم والمساندة والإسهام في رفع آثار الكارثة المدمرة. ومد يد العون بكافة أشكاله للمتضررين. فالعلاقة الخاصة مع الباكستان تحتم الوقوف إلى جانب المنكوبين. لعل وعسى أن يخفف ذلك من المصاب الجلل. • أستاذ الإعلام السياسي – جامعة البحرين