في لغة نقاد كرة القدم كنا نسمعهم يطلقون عبارة "تحزيم المباراة" ، عندما يكثر حكم المباراة إطلاق صافرته على الفاضي والمليان محتسبا أخطاءا توقف حيوية اللاعبين وتهدئ الملعب ، وهي طريقة تضمن له الوصول إلى بر الأمان بالمباراة حتى النهاية ، ولكن المشكلة أن طريقة "تحزيم" المباراة تفقد اللعبة معناها ، وتحول المباراة إلى مسخ مشوه للعبة لا يطيق أحد متابعتها ولا الاهتمام بها ، أحيانا أشعر أن السلطة الجديدة تستخدم نفس الأسلوب في إدارة شؤون الدولة المصرية ، لعبة "تحزيم المباراة السياسية" ، وذلك عن طريق التفكير في إطلاق أكبر كمية من القوانين المكبلة للحياة السياسية ، بحيث تضمن في تصورها استمرار عملها دون أي توترات خارج السيطرة حتى لو كان المشهد كله في النهاية سخيفا ومملا وغير مقنع ، وقانون التظاهر الذي حاولت حكومة الدكتور الببلاوي إطلاقه نموذج لهذا التوجه ، ومثل قانون الإرهاب الذي تروج له المؤسسة الأمنية حتى الآن بينما رئيس الوزراء يقول أنه لا يوجد لدينا قانون بهذا الشأن ، الببلاوي قال في الإمارات أمس أنه اكتشف أن قانون التظاهر يحتاج إلى تريث وعدم اندفاع إلى إقراره ، وأنهم لن يعمدوا إلى تجريم التظاهر أو محاصرته أو منعه ، وأنهم اكتشفوا أن القانون يحتاج إلى مزيد من الحوار والوقت ، وهو اكتشاف متأخر ، ولو فكر في حوار مجتمعي حول هذا القانون الخطير لأدرك ذلك مبكرا ، وعندما سألوه عن قانون مكافحة الإرهاب قال أن مجلس الوزراء لم يناقش مثل هذا القانون وأنه لم يعرض على الحكومة أساسا ، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الطبيعي عن الجهة التي روجت لحكاية قانون مكافحة الإرهاب أو أعدته وأعلنت عن نصوص له وصيغ التعريف لمعنى الإرهاب والجماعة الإرهابية ، وتورط الإعلام الرسمي والإعلام الخاص في طرح الموضوع ومناقشته بوصفه القانون الذي ستصدره الحكومة في غضون أيام ، قبل أن نفاجأ برئيس الحكومة نفسه يقول أنه لا يعرف شيئا عن هذا القانون وأن مجلس الوزراء لم يناقشه ولم يعرض عليه أساسا ، وهذه مشكلة ازدواجية السلطة دائما ، فهناك سلطة في العلن ووفق الأطر الدستورية للدولة ، وسلطة أخرى غير مرئية لكن الناس تشعر بوجودها وبصمتها في إدارة شؤون الدولة وإعداد قوانينها ، رغم أنه لا وجود لها في الإطار الدستوري للدولة ، حدث ذلك أيام مبارك عندما كان ابنه وزوجته يديرون الكثير من شؤون الدولة المصرية ويضعون قوانينها رغم وجود حكومة وبرلمان ، وحدث ذلك أيام مرسي عندما كانت الجماعة ومكتب الإرشاد يديرون الكثير من شؤون الدولة ويصنعون قوانينها وحتى إعلاناتها الدستورية رغم وجود حكومة ومستشارين ونائب للرئيس لا يعلمون شيئا عن هذا كله ، ويحدث ذلك الآن من خلال نفوذ الجيش وأجهزته الأمنية رغم وجود حكومة ورئيس للجمهورية ، وحالة ازدواجية السلطة تلك تأتي تعبيرا عن هشاشة البناء الدستوري للدولة ، وهو ناتج عن أن الشعب ليس هو مصدر السلطات ، وبالتالي يتم توزيع النفوذ حسب توازنات وحسابات أخرى لا صلة لها بدستور الدولة ولا تراتيبها الإدارية ، وتتحول فكرة "الشرعية" إلى حالة فضفاضة ، أو مطاطة ، نوسعها أو نضيقها أو نعدلها على الحجم المطلوب في لحظة أو أخرى . على كل حال ، ورغم قول رئيس الوزراء أن قانون التظاهر سوف يصدر بعد تعديله ، لكني أؤكد أن هذا القانون لن يصدر ، لأن أحدا لن يقبل به حتى لو تم تعديله ، لا الجهاز الأمني ، ولا القوى الوطنية ، بلد في حالة فوران ثوري ويكون أول قانون تفكر في إصداره هو منع أداة الثورة وتقليم أظفارها لن يسمح لك أحد بإصداره ، أنت في منصب هذا الآن عن طريق التظاهر ، والدولة الحالية بوضعها الحالي هي وليدة تظاهر ، ثم تقول سأجمد التظاهر أو أجرمه أو أحاصره ؟ ، ولو صدر القانون فسيقول لك الجميع " بله واشرب ميته" ، وسينزل لك الملايين من جديد في الشوارع والميادين ، وربما تدفع السلطة كلها ثمنا باهظا لهذا الخطأ أو إن تعامت عن غضب أمواج ثورية بشرية شابة صاغتها روح ثورة يناير وتملأ مصر الآن من أقصاها لأقصاها وبرهنت في كل مرة على أنها عصية على التطويع أو الترويع .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1