نستكمل ما بدأناه في المقال السابق عن أسرار الحج، ونتحدث عن المشعر الحرام، وسمي بالمشعر لكثرة ما كان يقال فيه من الشعر والتغني بأمجاد الآباء والأجداد، قال تعالى " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} فالتفاخر بالآباء كان عادة العرب والإسلام يريد أن ينهيه ليجعل الفخر ذاتيا في عمل الإنسان لا تبعيا في عمل الآباء قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} . الحلق والتقصير: الحلق يبدأ بعد رمي جمرة العقبة الكبرى وكأن الإنسان هنا بعد رجم الشيطان وذبح الهدى قد اقتحم العقبة وتجاوزها وهو قد عاد من عرفات كيوم ولدته أمه، وهذا الشعر الذي يحمله قد شاهد أيام العصيان ولذلك كان عليه أن يتخلص منه حتى لا يبقى عليه شاهد بذنب، هذا معنى، أما المعنى الآخر، فقد كان معروفا عند العرب أن العبد إذا أبق من سيده ومولاه فلا جزاء له إلا القتل، فإذا عاد بإرادته ورجع إلى سيده ومولاه وأراد سيده ومولاه أن يعفو عنه فإنه يكتفى بحلق رأسه، ويعرف هذا العبد بين العبيد والسادة بأن مولاه قد عفا عنه، ونحن قبل الحج كنا آبقين من سيدنا ومولانا، فعدنا إليه بأداء الفريضة ووقفنا بين يديه في عرفات متوسلين داعين طالبين لعفوه ومغفرته فتجاوز عنا وعفا، وكانت علامة العفو هذه هي هذا الحلق لنعرف بين العباد بأننا قد عتقنا من ذل المعصية وتحررنا بعفو الله عنا ومغفرته لنا وعلامة هذا العفو هو هذا الحلق الذي قال عنه النبي ثلاث مرات رحم الله المحلقين الصيام كبديل للهدي. يقول تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وانظر وأمعن النظر في قوله: "تلك عشرة كاملة" فهل هناك عشرة ناقصة ؟ معروف أن 3+7= 10 فما معنى أن يأتي بكلمة كاملة ؟ والجواب من عدة وجوه : 1. أن الصيام هنا بديل عن الهدي ومعروف أن البديل أو البدل أضعف من المبدل منه لأن المبدل منه هو الأصل، فلإزالة اللبس البين هنا هو أن صيام الأيام الثلاثة والسبعة بعد الرجوع كاملة في الأجر والثواب وليست بأقل من الهدي للمستطيع، لماذا؟ لأن الغني المستطيع هو الذي يؤدي الهدي، والفقير هو الذي يلجأ إلى البديل لأنه لا يملك. فقد يتوهم هنا أن فعل الغني أفضل في الأجر والثواب، فنبه القرآن هنا بأن فعل الفقير مجبور بثواب الله ومشمول برحمته فجعلها كاملة الأجر والثواب . 2. الوجه الثاني: أن الأعداد في أصولها ثلاثة آحاد وعشرات ومئات، والعشرة أوسط الطرفين والوسط محمود دائما ونحن أمة الوسط، فبين القرآن من هنا أن الله أوجب هذا العدد لكونه موصوفا بالوسطية والكمال. 3. الوجه الثالث: أن التوكيد طريقة معروفة في كلام العرب، وفي كلمة كاملة توصية بصيامها وألا يتهاون فيها أو ينقص من عددها . 4. الوجه الرابع: وفيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه الكتابة بين سبعة وتسعة في الخط خصوصا وأن القرآن في بدايته لم يكن منقوطا . 5. الوجه الخامس: لما كان صيام البديل عن الهدي مجزئا ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم،فقد يتوهم الذهن أنها إذا كانت مجزأة في القسمة فتكون مجزأة في الأجر، ويكون أجر الثلاثة في الحج أكبر مثلا لأنها في موسم طاعة وعبادة بينما أجر السبعة أقل لأن المرء يصومها وهو مقيم في بلده وبين أهله فبين الله تعالى أنها ليست مجزأة في القسمة بين أيام الحج والعودة من السفر فقال تلك عشرة كاملة 6. الوجه السادس: أن العشرة هنا وصفت بأنها كاملة لأن صيامها يسد الخلل وبها يكون الحج المأمور به تاما وكاملا كما قال تعالى وأتموا الحج والعمرة لله. 7. الوجه السابع: أن الصيام مشقة، وهو مضاف إلى الله تعالى في قول النبي صلى الله عليه وسلم " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " والحج أيضا مضاف إلى الله تعالى في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله، والصوم عبادة لا يضطلع عليها إلا الله، وهو شاق، والحج عبادة شاقة على النفس جدا، لأنه انتقال من حال إلى حال ، ومن بلد إلى بلد ويقتضي ترك الأهل ومفارقة الأهل والولد والأحباب، كما يستلزم التباعد عن أكثر المباحات بعدما دخل في منسك الإحرام، وإن كانت حلالا في غير الحج، فكل من الصوم والحج لا يؤتى بهما إلا ابتغاء وجه الله،وهذا الصوم الذي معنا بعضه واقع في زمن الحج وهو انتقال من مشقة إلى أخرى، والأجر على قدر المشقة فلا جرم أن وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة، فكان من أتى به أتى بعبادة كاملة لأنها جمعت بين مشقتين، مشقة الحج ومشقة الصيام فيه والله أعلم . يوم التروية . التروية هي التفكر .... تروي في الأمر تدبر فيه وتفكر ولم يتعجل . فما سبب تسمية يوم الثامن من ذي الحجة بيوم التروية؟ 1. بعدما بنى البيت وعرف آدم عليه السلام أنه مأمور بطواف هذا البيت طاف ثم تروى وتفكر فقال يا رب: إن لكل عامل أجرا فما أجري على هذا العمل فقال الله له: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك قال يا رب زدني. قال الله أغفر لأولادك إذا طافوا به. قال يا رب زدني قال الله تعالى أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك قال يا رب حسبي حسبي . 2. أن إبراهيم رأى في منامه كأنه يذبح ولده فأصبح متفكرا أهذا من الله أم من الشيطان ؟ فلما رأي ليلة التاسع ليلة عرفة أنه يؤمر بذبح ولده قال عرفت يا رب أنه من عندك . 3. وقيل أن أهل مكة كانوا يخرجون يوم التروية ليجمعوا الماء إلى منى للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق حتى يشربوا ويرتووا بعدما كانوا في ضيق من الماء أثناء الطريق، أو لأنهم يتزودون من الماء إلى عرفة. 4. وقيل إن التروية من الإرواء أو الارتواء، فكأن المذنبين عطاشى وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى ارتووا بالتوبة وغفران ذنوبهم .
يوم عرفة وقيل سمي بذلك 1. لأنه من المعرفة ، لأن آدم عليه السلام وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه . 2. أو لأن جبريل علم آدم عليه السلام مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال أعرفت؟ قال نعم . 3. أو لأن جبريل عرف إبراهيم المناسك استجابة لدعوته ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا . 4. لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر ورجع على الشام ولم يتلاقيا سنين طويلة،ثم التقيا يوما بعرفات. 5. أو لأن الحجيج هناك يتعرف بعضهم على بعض ثم هم يتعرفون على ربهم في آخر ركن من أركان الإسلام . 6. أو لأن اشتقاقه من الاعتراف، فالحجيج يعترفون هناك لربهم بالربوبية والجلال، ويعترفون على أنفسهم بالعبودية والفقر واختلال الحال، يقال بأن آدم عليه السلام وحواء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، فقال الله تعالى الآن عرفتما أنفسكما . 7. وقيل من العرف وهو الرائحة الطيبة يكتسبها الحجاج بعدما أزيلت عنهم روائح المعصية والذنوب فيطيبهم الله بالرحمة والمغفرة وصلاح الحال . كانت هذه رؤية طوفنا فيها معكم لا من داخل الأسوار، أقصد أسوار الأحكام الشرعية في ضبط الفرض والركن والواجب والسنة والمستحب، ولكن من داخل الأسرار والأنوار التى تستبطن الفعل وتدخل في عمق المنسك ليضفي علينا من بعض أنواره وأسراره، متمنيا أن نكون جميعا ممن لا تحجبهم الأسوار عن رؤية الأسرار والأنوار، كما أرجوه تعالى أن يجمعنا جميعا وكل مشتاق في رحاب رحمته ورضوانه هناك في عرفات وهنالك في ظل عرشه ورضوانه يوم الرضوان الأكبر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم