تظل حرب أكتوبر هي درة تاج العسكرية المصرية في تاريخها الحديث ، تظل هي المعركة التي مثلت نقطة التحول التاريخي في كسر مسار الصعود للمشروع الصهيوني في المنطقة ، هي اللحظة التي انتهت فيها الأسطورة التي روجتها إسرائيل في العالم كله عن أن جيشها لا يقهر ، قهر المصريون الجيش الذي لا يقهر ، وأظهرت المعركة معدن الإنسان المصري عندما يوضع أمام التحدي الكبير وعندما تستخرج ما فيه من طاقات الإيمان وإرادة النصر ورفض الهزيمة والانكسار ، نصر أكتوبر هو الأجمل هو الأروع هو الأغلى هو المحفور في ذاكرة مصر بحروف لا تمحى على مر السنين كمسلات النصر القديمة ، نصر أكتوبر هو حصاد جهود كبيرة لقيادات عسكرية فذة تعالت على حظوظ النفس واستحضرت في ضميرها مسؤوليتها التاريخية أمام وطنها وشعبها ، فكانت المخاطرة ، ننتصر أو نموت ، ولنا أن نعلم أن تلك المعركة ، معركة أكتوبر ، لو كانت مصر قد خسرتها فإن المشروع الصهيوني كان يعلن سيادته المطلقة للمنطقة لقرن كامل بعدها على الأقل وتحولت مصر إلى أضحوكة بين العالمين ومثارا للتندر عن الحمق والضعف والذل ، انتصر المصريون وسجل العسكريون المصريون بطولات أدهشت العالم ، من أصغر جندي إلى أكبر قائد ، بل الغريب أن الجنود البسطاء والرتب الصغيرة حققت معجزات عسكرية حقيقية في إصابتها لقلب العدو في أفراده ومدرعاته وطائراته ، وسنظل كأبناء لهذا الجيل نشعر بمزيج من الفخر والإكبار والإجلال "لسادتنا" الذين خاضوا معركة الشرف هذه ومنحونا أجمل ابتسامة ومزقوا أوهام الانكسار ، وفي كل عام نضع على جبينهم قبلة العرفان ، وعلى قبور من رحلوا عن عالمنا زهرة الامتنان . في مكان عال من لوحة الشرف هذه في حرب أكتوبر ، يقف المجاهد الكبير الشيخ حافظ سلامة ، قائد المقاومة الشعبية في حرب أكتوبر ، وكثير من أبناء هذا الجيل لا يدركون أن هذا الرجل ضئيل الجسم وناحله بلحيته البيضاء التي تجلل وجهه الوضيء ، نجح في حماية عاصمة بلادهم من تهديد وصول قوات العدو إلى مشارفها في حرب أكتوبر بعد واقعة ثغرة الدفرسوار ، حيث انتقلت قوات إسرائيلية كبيرة إلى الجانب الغربي من القناة وحاولت التمدد جنوبا للسيطرة على مدينة السويس وشمالا للسيطرة على الإسماعيلية ، بدعم استخباراتي واستطلاعي دقيق قدمه الأمريكيون لهم ، كانت الإسماعيلية أكثر تحصينا لأن القدرات الباقية فيها من الجيش الثاني كانت رادعة للتمدد الإسرائيلي ، وكانت الفجوة الحقيقية في السويس ، حيث كانت معظم قوات الجيش الثالث في سيناء ، ولم يبق في المدينة سوى عدد قليل من قوات الجيش ، فاستغلت إسرائيل ذلك وقامت بحصار المدينة بمائتي دبابة وعشرات العربات المدرعة وكتيبة من قوات النخبة عالية الكفاءة "المظلات" وكتيبتين من المشاة ودعم جوي ساحق قصف المدينة بقسوة ، وطلب الاستسلام أو أن يحولها إلى تراب ، فوجد محافظ المدينة وقتها "بدوي الخولي" أن المدينة تتعرض للإبادة فقرر تسليمها ورفع الراية البيضاء فوق مبنى المحافظة ، واختفى المنسق العسكري للمدينة العقيد عادل إسلام لانقطاع الاتصالات ، فإذا بالأرض تنشق عن هذا الشيخ الجليل ، ليعلو مئذنة مسجد الشهداء صارخا : الله أكبر حي على الجهاد ، ووبخ المحافظ على قراره وقال له إنك لا تملك أن تسلم السويس للعدو وتستطيع أن تستسلم كشخص إن كنت تخشى على حياتك ، لكن السويس لن تستسلم ، وستكون مقبرة الصهاينة ، وبدأ الشيخ حافظ سلامة في جمع شبان السويس ووزع عليهم السلاح الموجود في المدينة من مخازن الجيش والشرطة ، وأعاد تجميع ما تبقى من جنود القوات المسلحة ، وقسمهم مجموعات لحرب الشوارع ، ونظم مجموعات للدعم اللوجستي ، وبدأت ملحمة رائعة للشعب المصري في السويس ، تركوا قوات العدو تدخل حتى وصلت إلى ميدان الأربعين وحاصرت قسم الشرطة بالمدرعات ، ثم انشقت الأرض عن الأسود الضارية لتصب الحمم على جنود العدو ومدرعاته ، فإذا بهم أمام كابوس مروع ، حاولوا الاستغاثة بالطائرات فلم تستطع خوض المعركة وسط التلاحم ، وطلبوا النجدة ، واستمر المعركة حوالي أسبوعين ، خسر العدو فيها حوالي ثمانين دبابة ، وعشرات العربات المدرعة والعديد من القتلى والجرحى ، قبل أن يهرب وهو يجر أذيال الخيبة بعد صدور قرار دولي بوقف القتال ، وبقيت السويس حرة طاهرة صامدة ، وحرم الجنرال "أدن" قائد قوات العدو من تحقيق حلمه في الزحف إلى أطراف القاهرة وإحراج مصر أمام العالم وتفريغ نصر أكتوبر من جوهره بل وتحويله إلى هزيمة . بعد أن هدأ غبار المعارك ، احتفل الرئيس السادات بأبطال حرب أكتوبر في مجلس الشعب في يوم تاريخي ، وكان بين الجنرالات الكبار والأبطال التاريخيين للمعركة ، ذلك الشيخ الجليل ذو اللحية البيضاء ، الشيخ حافظ سلامة ، ومنحه السادات أرفع أوسمة الوطنية المصرية ، قبل أن يعتقله بعد ذلك لاحتجاجه على معاهدة "كامب ديفيد" ، كما طلب منه السادات حينها أن يتولى منصب محافظ السويس فرفض الشيخ ، وعاد إلى مزرعته المتواضعة بالمدينة ومسجده يواصل رحلة العطاء التي لم تنقطع حتى ساعتنا هذه ، ومن يزور مسجد الشهداء في السويس يرى على بابه لائحة محفورة على الرخام تحمل أسماء شهداء ملحمة السويس ، وكتب الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب الجيش المصري في معركة النصر في مذكراته يقول "الشيخ حافظ سلامة رئيس جمعية الهداية الإسلامية، إمام وخطيب مسجد الشهداء، اختارته الأقدار ليؤدي دورًا رئيسيًّا خلال الفترة من 23– 28 أكتوبر عام 1973 عندما نجحت قوات المقاومة الشعبية بالتعاون مع عناصر من القوات المسلحة في صد هجمات العدو الإسرائيلي وإفشال خططه من أجل احتلال المدينة الباسلة" . تسعون عاما لم يتخلف فيها حافظ سلامة عن معركة ضد العدو ، منذ 1948 إلى حرب 56 إلى حرب الاستنزاف إلى حرب أكتوبر ، والمعركة الوحيدة التي لم يقدر الله له المشاركة فيها كانت حرب 67 ، لأنه كان وقتها في المعتقل ، متعه الله بالصحة والعافية .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1