أي نظام حكم نفضله ..؟؟ سؤال يلامس واقع الحال في المنطقة العربية من قلبه إلى أقصى أطرافه .هناك ديكتاتوريات مستترة وديمقراطيات مخاتلة .. الناس تكره الدكتاتورية و تحب الديمقراطية ، والحكام لا يملون من قول ذلك ..!!. والتاريخ محايد .. احترم بعض الدكتاتوريات واحتقر بعضها ، و صالح بعض الديمقراطيات و لعن بعضها .. من يحاول رؤية الأمور بموضوعيه متجاوزا الشكل قافزا إلى الموضوع و الجوهر ، يجد أن الناس عادة تبدأ باتخاذ الأشكال .. عساها تهتدي بها وقد تهتدي بالفعل أحيانا . إلا أن الأحوال سرعان ما تتبدل ، فنجد أن الجوهر قد تبخر بمرور الزمن ولم يبق إلا الشكل . ميكيافيللى( 1469 –1527م ) الذي يعد اسمه علما في عالم الغش و الدسيسه والمؤامرات ، له رأي في الحكم جدير بالتأمل . قال: إن بعض الباحثين يلومون الرومان على ابتداع الديكتاتورية التي تنتهي إلى الحكم المطلق ، وهو حكم اثبت التاريخ جوره ، والإنصاف يدعونا لان نقول – ما زال الكلام لمكيافيللى - إن الديكتاتورية في روما كانت قانون ولم تكن اغتصاب ،والديكتاتور يستمر في منصبه لمده معلومة و محدده . من اجل ذلك لم نجد دكتاتورا إلا وأفاد روما أفاده واضحة ، وهى اخطر بدعه ابتدعتها روما ، ويرجع الفضل لها في تكوين تلك الإمبراطورية الكبرى ، ذلك أن الحاكم القوى يحتاج كثيرا إلى البت السريع .. والبت السريع لا تصلح له الجمهورية التي من شأنها ألا تبت في أمر من أمورها ، حتى تتفق عليه عده سلطات كثيرا ما يتعذر بينها الوفاق ، وفى هذا إضاعة لزمن غال تضيع بإضاعته فرص غالية . هذا تفسيره للدكتاتوريات الرومانية ، أما رأيه هو فمفاجأة إذ يقول: إن الاستناد إلى الشعب اضمن لصيانة الحرية من الاستبداد ، وإن الوفاء للشعوب أوثق من الوفاء للملوك والنبلاء ، وإن الحالة الوحيدة التي تبرر الديكتاتورية هي اختلال الأركان في الجمهورية . ويرى أن الشعب يجب أن يلتف حول الحاكم عن حب ومهابة وثقه ، لا عن خوف وخنوع واستسلام ..انتهى كلام ميكيافيللى الذي قد يخالفه فيه كثيرون . ديكتاتورية هتلر .. يتحتم على أي مهتم بتجارب التاريخ أن يقف عندها كثيرا ، وهى نموذج غريب . فقد اجمع كل المؤرخين على أن الأمة الألمانية لم تجد رخاء كرخاء عهد الديكتاتورية الهتلرية .. ومع هذا فقد انتهى هذا العهد بكارثة لم تعرف الأمة الألمانية كارثة مثلها ، لأنها تحولت إلى حكم مطلق بعد أن كانت ديكتاتورية تعتمد على المشورة ، فأنكرتها بعض حين ، وأصاب صاحبها الغرور فأنكر الله ، وتصور انه لا ينبغي أن يرى أحد إلا ما يراه هو ، لأنه لا يختار إلا سبيل الرشاد ، هكذا تبدأ كوارث الأمم دائما . يذكرون في هذا الصدد أيضا فرانكو أسبانيا ، ويقولون أنه اعتمد في طول حكمه على شيئين : "رضا الناس وممالأتهم" ، واعتداله في استخدام ما بيده من قوه لا حد لها . هناك أمثله للحكم المطرز بأشكال جميلة وشديد العفن من الداخل ، والتطريز الجميل الذي اقصده بالطبع هو الديمقراطية .. التعددية الحزبية والانتخابات .. ثم حكومة يأتي بها الناس بعد ذلك ، واجمل تشبيه قرأته للديمقراطية أنها كالإناء ، قد توضع فيه الثمار الطيبة ، وقد توضع فيه الثمار الفجة المرة ، فتصبح بذلك ذريعة قويه لدكتاتورية مخلّصه ( بتشديد اللام ) كما قال ميكيافيللى . وأسوا ما في الديمقراطية ( رقص المال ) .. أقصد تراقصه و تلاعبه في الأيادي والأعين ، وهذا وما يتبدّى بوضوح شديد في الغرب الآن . واعتقد بيقين أن هذا الموضوع هو ( كعب اخيل ) الديمقراطيات ..أي اضعف جزء فيها ، سواء في تأثيره على الأحزاب التي هي بنيان العملية الديمقراطية ، أو في تأثيره على الناخب (الصوت والصندوق) ... وقد يبلغ الرجل الجبان بماله ما ليس يبلغه الشجاع المعدم : ومن أسوأ ما يطالعك في الحزبية ، أن العمل السياسي قد يصبح عند البعض احترافا و تكسبا .. ويصبح البوابة الكبرى للمجد والشهرة والمال والتصارع الفارغ .. لا عملا تطوعيا يرجى به الصالح العام للوطن ، ولا أمراً بمعروف ونهيا عن منكر يرجى به صالح الأمة ورضى رب الأمة ، وأول من تنبه لهذه الكارثة مؤسس الولاياتالمتحدةالأمريكية (جورج واشنطن) ، هكذا العظماء دائما يشعرون بالخطر وهو بعد وليد . ولعل موقف الأستاذ حسن البنا رحمه الله من الأحزاب ، كان يقترب من هذه الرؤية .. لكن المشكل في الموضوع أن الأحزاب ولدت يوم ولدت الديمقراطية. "واشنطن" الذي رفض رئاسة الجمهورية لثالث مره ، ويعتذر عن ذلك ويخطب في أمته معتذرا عن الاستمرار و مودعا قائلا : لقد سبق و ذكرت لكم أخطارا تجيء من وجود الأحزاب في الدولة ، فدعوني أزدكم وأحذركم .. وأخذ يعدد في عيوب الحزبية ، بدئاً من أن لها ( جذور أرضها شهوات الأنفس العارمة ) و(تسلط قادتها و رؤساؤها ، تسلط هو في ذاته نوع من الاستبداد المخيف و قد يؤدى في نهاية الأمر إلى نوع من الاستبداد اكثر ثباتا ) ، وانتهاء بوصفها (إنها قد تنفع ولكنها كالنار تدفئ وإدفاؤها في خفضها ، أما إذا هي اشتعلت حتى تأججت وامتدت ألسنتها فلن تكون للدفء ، و لكن للحريق الذي يأكل البيت ومن فيه ) . هذا رأى أحد اكبر و أهم رجل في تاريخ أمريكا .. ماذا فعل المال و سطوته و شركات النفط والأدوية و السلاح بالعمل السياسي والأحزاب ؟ ماذا فعلت شركات الإعلان والدعاية وبرامج التوك شو والتغطيات الانتخابية والتقارير التي تبثها محطات التلفزيون العملاقة مرددة (الأكاذيب النبيلة لإقناع الدهماء بضرورة وجود الحكماء على العرش) بتكرار وإلحاح يسحق أمامه أي محاولة للتريث والتفكر وقراءه المشاهد والمواقف بعين التبصر ، والذي يسميه ناعوم تشومسكى (فبركه الموافقة) ، والناس على دين تلفزيوناتهم كما كانوا من قبل على دين ملوكهم ... الديمقراطية اليوم على رواجها وإنتشارها في العالم إلى حد غزو بلد لبلد آخر لأنه ليس ديمقراطيا!! ، وعلى ما يكاد يتفق الناس كلهم على كونها حتى الآن اصلح نظام حكم توصلت إليه الإنسانية لحل معضلة السلطة التي تحفظ المجتمع ولا تبتلع حريات الناس ، فإن بها من العيوب ما يحتاج إلى معالجة ، وحمايتها بسياج يصونها و يحمى المجتمعات من الأشرار أصحاب المال والسطوة . وأهم سياج هو ( تمرين الناس وحضهم بكل الوسائل على مزاوله الشئون العامة حتى تصبح رعاية المصالح العامة عاده يباشرها الناس عفو الخاطر كأنهم لا يقصدونها ، مثلهم في ذلك مثل الأعضاء البدنية التي تشترك في التغذية بينها في غير كلفه ..) كما قال العقاد . و( تعميق الرشد والإنسانية في المجتمعات ، حماية للوعي الاجتماعي ، وتأكيد لعلاقة الفرد بالمجتمع لمواجهه تزييف الوعي الذي تمارسه الميديا الغربية حتى تتضح المعايير الصحيحة للحقيقة) كما يقول هابرماس أحد مؤسسي مدرسه فرانكفورت في كتابه (نحو مجتمع رشيد ) ، وهذا يكون بتنمية (الحاسة المجتمعية) في البيت و المدرسة و النادي والمسجد والكنيسة والإعلام ، وإقامة دورات وإعطاء محاضرات وطبع نشرات ودوريات ، وكل ما من شأنه أن يجعل (رعاية المصلحة العامة عاده) والحمد لله أن الاهتمام بالشأن العام في ثقافة امتنا عباده. ولنا أن نتأمل في أركان الإسلام و التأكيد الدائم على أن تتم في منظومة جماعية . ما أريد أن اصل إليه من خلال مقالي هذا ، هو أن الحكم الصالح ليس ديكتاتوريا ، ولا بالضرورة ديمقراطيا ، ولا هو بالقوانين والدساتير والمراسيم واللوائح . كل هذه أشكال وصور قد يتحقق معها الحكم الصالح وقد لا يتحقق .. الحكم الصالح يكون برجال صالحين . (تصلح بهم الأيام إذا فسدت ويفرق العدل بين الذئب والغنم) يؤمنون بالله و يخافونه و يخشونه ، ويؤمنون بالناس ولا يخافونهم ولا يتملقونهم طلبا لأصواتهم مجافاة لحق وتنكر لمصلحه عليا .. رجال يبثون الأمن والطمأنينة بين الناس ولا يعرفون منطق الحديد والنار في معاملاتهم واختلافاتهم وخصوماتهم . الناس عندهم سواسية ، فالقوى ضعيف حتى يؤخذ الحق منه ، والضعيف قوى حتى يؤخذ الحق له كما قال أبو بكر الصديق .. يبذلون من أنفسهم اكثر مما يبذلون لها ..إذا غضبوا لم يخرجهم الغضب من الحق ،فذا رضوا لم يدخلهم الرضا في الباطل ، وإذا قدروا عفوا وكفوا . تمضى الأمور بأهل الرأي ما صلحت فان تولت فبالأشرار تنقاد لا يصلح الناس فوضى لا سراه لهم و لا سراه إذا جهّالهم سادوا لا يهم شكل هذا الحكم ، مادامت الشعوب على قسط وافر من الحس السياسي العالي ، عارفين بحقوقهم ، قادرين على المطالبة بها إذا انتقصت ، وحث الحكام على احترام هذه الحقوق إذا تطاولوا عليها ، ولا يكونوا أبدا (عبيدا لمن سطا) . وهو ما يحتاج من المصلحين إلى جهد كبير ووقت ليس قليل ... بقي أن اذكّر أن أهم سمة من سمات الحكم الصالح هي أن يرضى به الناس بلا خوف ، ونضع تحت كلمه الخوف ألف خط . [email protected]