في الذكرى ال 43 لرحيل جمال عبد الناصر ألاحظ أن هناك حالة محمومة من التعظيم، بل التقديس له، خصوصا بعد إسقاط حكم الإخوان، وكأن الناصريين يريدون القول إنهم سحقوا الإخوان مرة أخرى بعد أن سحقهم عبد الناصر بنفسه في الخمسينيات والستينيات على أعواد المشانق وفي السجون. الموجة الثورية في 30 يونيو لم تكن ناصرية، ولا يسارية، ولا ليبرالية، أو علمانية، أو فلولية ، هي موجة شعبية يصعب تلوينها أو نسبتها لأي تيار، فلماذا يريد الناصريون مصادرتها وتوظيفها لصالحهم باعتبارها ثأرا من ناصر وهو في قبره من خصومه التاريخيين الذين أرادوا ابتلاع مصر وشطب المرحلة الناصرية وإهالة التراب عليها، كما يريدون توظيفها أيضا باعتبار حمدين صباحي الناصري الانتماء هو مرشح الثورة والدفع به للرئاسة بكل وسيلة، فهذا حلمه الأثير، ولا ندري كيف سيكون حاله إذا ترشح ولم يفز، وفرصه ضعيفة في حالة ترشح عسكري سابق، وفرصه منعدمة في حالة ترشح السيسي، وفي كل الأحوال فإن أسهمه هبطت في الشارع كثيرا عن مرحلة الانتخابات السابقة. تصوير عبد الناصر وكأنه بلا أخطاء هو خروج عن القاعدة التي تقترن بالإنسان منذ ظهر على وجه الأرض سواء كان إنسانا عاديا، أو حاكما، وهي أن كل إنسان له إيجابيات وسلبيات، لكن المشكلة مع هؤلاء أنهم يعظمون جدا في إيجابياته، ويخفون تماما سلبياته، وكأنه وُلد ليكون بلا نقيصة طوال حياته، وإذا اضطروا إلى الحديث عن السلبيات فإنهم يمرون عليها سريعا ويتم التقليل من شأنها، ولعل أخطرها هي هزيمة 5 يونيو 1967 التي سماها هيكل نكسة، وعليه فقد اقترن ذكرها دوما بوصفها نكسة، وليست هزيمة ضاعت فيها سيناء بالكامل، وقطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية، والضفة الغربية والقدس الشرقية، وهضبة الجولان السورية، وأراض أردنية ، كل ذلك احتلته إسرائيل خلال ساعات في حرب مباغتة شنتها على مصر وسوريا والأردن. هي هزيمة، وليست مجرد كبوة لجواد، لأن تداعياتها كانت كارثية على العرب، ومازالت مستمرة حتى اليوم، فقد ساهمت في تثبيت وتأكيد وجود إسرائيل وقوتها وفرضها لشروطها وتغيير طبيعة الصراع معها على كافة الجهات ،فإذا كانت إسرائيل تأسست بالاغتصاب في عام 1948، فإنها تثبتت كدولة في 1967، والهزيمة سياسية بالأساس تعرض فيها الجيش المصري لظلم كبير لأنه عمليا لم يحارب بسبب أخطاء كبيرة لا تتعلق به إنما بالقيادة السياسية والعسكرية، وهذا يجعل مسؤولية عبد الناصر مضاعفة لأنه رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة ، فالجيش هو نفسه الجيش الذي حارب وانتصر ببسالة وشرف وعزة بعد 6 سنوات فقط في حرب أكتوبر المجيدة. هل تم تشكيل لجنة تحقيق، وهل جرت محاسبة جادة لتحديد المسؤوليات في تلك الهزيمة لمن كانوا يحكمون آنذاك، لا أدري؟، لكن لابد ولو بعد مائة عام أن نعرف حقيقة ما حصل في تلك الحرب التي أُخذ فيها جيشنا على حين غرة ليتحمل اعتداءات إسرائيلية مفاجئة دون تمكينه مسبقا من الاستعداد والقتال، ولو كان هناك استعداد كما حصل في أكتوبر 1973 لما كانت إسرائيل احتلت شبرا واحدا من سيناء ولكانت ارتدت على أعقابها خاسئة. عبد الناصر يحتل مكانة بارزة في تاريخ مصر المعاصر، وهو له إنجازات لاينكرها أحد ، ولايجب احتكاره من تيار معين ، بينما السادات في تقديري هو صاحب دور أعظم لمصر، فهو صاحب انتصار أكتوبر الذي أزال به عار الهزيمة السياسية وليس العسكرية، فالجيش فعل في أكتوبر ما كان سيفعله بسهولة في 67 ، والسادات كما كان رجل الحرب، فهو رجل السلام الذي حرر ما تبقى من سيناء بالسلم، وبمبادرة تثبت الأيام صحة رؤيته، وأنه كان سابقا لعصره، وأن العرب اليوم لابد أن يتحسروا لأنهم لم يسيروا معه على طريق السلام، والسادات صاحب قرار عودة الحياة الحزبية بعد ربع قرن من العصف بها، وهي أسست للحراك السياسي في عهد مبارك، وجعلت هناك صوتا للمعارضة، ورأيا آخر بدل الرأي الواحد والحكم الشمولي في عهد عبد الناصر، وقد جرت انتخابات ديمقراطية نزيهة في عهده عام 1976 صارت مضرب المثل على تزوير الانتخابات في عهد مبارك ، وقد سقط شهيدا يوم عيده وعيد مصر في 6 أكتوبر 1981. يتداول النشطاء على "فيس بوك" صورة لعبد الناصر في العيد ال 13 لثورة يوليو عام 1965، وفي نفس العام وقبل عدة أشهر كانت نتيجة الاستفتاء على رئاسته هي ال 5 تسعات الشهيرة، أي 99,999%، هكذا دون خجل ممن أشار بتلك النتيجة، وممن وافق عليها، ولابد أن يكون ناصر شخصيا، بل إنه كان يجب أن تُحاسب وزارة الداخلية على الواحد من مائة في المائة الذي لم ينتخبه، إذ كيف يوجد هذا النفر في مصر أصلا في زمن القائد والزعيم، لكن ربما ما كان يشفع لها أن هذا النفر المارق هم المساجين، وهم لا يحق لهم التصويت. سارت البلدان العربية ذات النظم الشمولية على الهدي الناصري في نتائج ال 5 تسعات، ولم يشذ عنها إلا الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في آخر استفتاء قبل سقوطه واحتلال العراق بأن جعلها مائة في المائة، هذا خبل بالطبع. هل صحيح يمكن أن يصدق الديكتاتور أن شعبه بلا استثناء يهيم فيه شوقا، أم أنه مرض يلازم الطغاة في كل مكان وزمان؟، فهناك في كوريا الشمالية مثلا عاقب الحكم الشيوعي الديكتاتوري بعض المواطنين لأنهم لم يحزنوا بما يكفي عندما مات الرئيس السابق والد الرئيس الحالي، فهم يفرضون على الشعب تقديس الحاكم . الإرث الناصري في الحريات، وحقوق الانسان، والديمقراطية، ثقيل، نتمنى أن تكون مصر قد شُفيت منه تماما ، ونتمنى ألا يعمل أحد على إعادة عجلات التاريخ للوراء في هذا الجانب. الديمقراطية مهما كانت أخطاؤها ونتائجها تظل أفضل ألف مرة من الاستبداد، ولو كان عادلا، لا استبداد عادلا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.