حرب أكتوبر انتصار تاريخى عظيم لم تعرف مصر مثله منذ دخلت فى صراع مع إسرائيل. هذا ما أؤمن به، وهو إيمان لن يتزعزع أمام فريق يسعى جاهدًا للتقليل من شأن الانتصار لأن صاحب قرار الحرب الشجاع هو الرئيس الراحل السادات، وهم على خلاف معه بسبب انتمائهم الناصرى أو اليساري، وهم لهم حق الاختلاف السياسى مع السادات ومع حقبته لكنهم يرتكبون خطيئة كبرى عندما يهيلون التراب على أكتوبر وعلى قائده لأنهم يعادونه. هذا مرض عضال فى العقلية النخبوية التى تفتقد التجرد والموضوعية والإنصاف تحت غواية الهوى والغرض والمرض. كنت فى عامى السابع عندما قامت الحرب ولم أكن أدرك وقتها حقيقة ما يجرى، لكنى كنت أشعر بأجواء من الفرح العام على وجوه أسرتى وأهل شارعى وأهل قريتى عمومًا بعد حزن استمر 6 سنوات، ولأن الشهر كان رمضان فقد كان الفرح مضاعفًا باسترداد العزة والكرامة وبالصيام. يكفى السادات منا قرار الحرب الذى لم يكن سهلاً، وإذا أضيف إلى سجله عقد معاهدة السلام، واسترداد سيناء من إسرائيل دون حرب أخرى مكلفة لبلد يعيش أزمة ممتدة وطويلة، فهذا أمر جيد حتى لو كان السلام ليس كما كنا نتمناه، لكن علينا أن ندرك أن أرضنا كانت مازالت محتلة بعد تحرير جزء منها بالحرب، ودائمًا المحتل يفرض شروطه، وهذا طبيعى فى إدارة الصراعات، وفى فن التفاوض السياسي، وعلينا أن ندرك أن إسرائيل ليست عصابات صهيونية، فهذا تسخيف للواقع، فهى دولة قوية عسكريًا واقتصاديًا وعلميًا، وهى لا تعمل وحدها فى قلب محيط عربي، إنما هى جزء من الغرب الأوروبى والأمريكي، هى منهم وهم منها، وهم لن يتخلوا عنها أبدًا، وسقوطها الحقيقى عندما تكون هناك وحدة عربية حقيقية ومخلصة، وعندما تكون هناك إنجازات حضارية عربية مؤثرة، الإمبراطوريات والدول لا تنهزم ولا تزول إلا عندما تتفوق عليها القوى المنافسة لها، فهل إسرائيل أضعف من مصر والعرب الآن؟ بالطبع لا، إذن وقت هزيمتها وفرض الشروط عليها لم يحن بعد. كان يكفى مصر والسادات من أكتوبر أن يكون الجيش قد عبر قناة السويس فقط، وغرس العلم على الضفة الشرقية للقناة، لكنه فعل أكثر من ذلك، وغسل عار هزيمة يونيه. ما حصل إنجاز تم به استرداد الكرامة التى سلبتها إسرائيل فى 67، حيث احتلت سيناء بالكامل ومعها غزة التى كانت تحت الإدارة المصرية غير الأراضى العربية فى سوريا والأردن، بل كانت الطريق مفتوحة أمامها للقاهرة ودمشق وعمان. انهزم عبد الناصر، ولا كلام غير ذلك، فهو الرئيس وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، حارب عبد الناصر إسرائيل بالخطابات النارية، وهى حاربته باللكمات القوية، وهزمته بالتخطيط والاستعداد والقوة والدهاء والمفاجأة، وهى الأدوات التى استفاد منها السادات فى 73 فهزمها. السادات منتصر، وعبد الناصر مهزوم. هل يحتاج ذلك إلى تفلسف وتقعر من فرق ناصرية محبطة معقدة تحتاج علاجًا نفسيًا طويلاً، ولو عاد عبد الناصر اليوم فلن يكون له مكان كما يروج البعض، لأن مصر اليوم غير مصر عبدالناصر، فلا أحد مستعد لمغامرات جديدة، وديكتاتورية جديدة، ومعتقلات وسجون وتعذيب، ولا أحد مستعد لدولة ذات صوت واحد ، ولا دولة تنتصر على العدو بالأغانى والحفلات والخطب الحماسية والمقالات الموجهة والنفاق، ولا أحد مستعد لدولة يقودها حاكم أوحد يدير بلدًا كبيرًا من غرفة مكتبه أو نومه فى بيته. لعبد الناصر إنجازات اجتماعية وصناعية وخدمية لكن دون ذلك فإنه ألغى الحريات وشطب الديمقراطية والأحزاب والمعارضة والرأى الآخر، وجعل مصر كلها موجهة لتكريس زعامته وتتحدث بصوته هو فقط، وفى الختام جلب هزيمة تعانى مصر من آثارها لليوم. كنت أكتب هذا المقال والرئيس محمد مرسى يلقى خطابه فى الاستاد فى احتفال شعبى بنصر أكتوبر فى أجواء مفتوحة طبيعيًا وسياسيًا، فلا نفاق، ولا خوف، ولا صوت واحد قاهر، ولا تقديس للحاكم. التاريخ يمضى للأمام، ولا يعود للخلف أبدًا، وهذا ليس زمن عبد الناصر، إنه زمن الشعب المصري.