الأسبوع الماضي كنت في ضيافة أحد المفكرين الكبار لعيادته في مرض ألم به ، وكان بين الحضور محام كبير ومعروف ، وجرى الحديث حول واقعة مقتل خالد سعيد في الاسكندرية ، وقلت له بتفاؤل أنه كان أمرا حسنا إحالة وضعه إلى اللجنة الثلاثية حيث ينتظر الناس تقريرها ، ففوجئت بالمحامي الكبير يقول لي حرفيا "قلبك أبيض يا أستاذ"!! ، اندهشت كثيرا من رده الذي استشعرت منه عدم الاطمئنان إلى نتيجة التقرير الذي تعده اللجنة ، وأقلقني جدا أن يكون هذا الانطباع من محامي كبير خبر قضايا مشابهة على مدار سنوات طويلة ، وقد استحضرت ذلك الحوار أمس وأنا أطالع بيان المحامي العام لنيابات استئناف الاسكندرية ياسر رفاعي وهو يعلن أن تقرير اللجنة الثلاثية ذهب إلى أن وفاة خالد سعيد كانت بسبب اسفكسيا الخنق وأنه ثبت أنه "ابتلع" لفافة ، ثبت أنها لفافة بانجو ، واكتشف التقرير أن أمعاء الفقيد كانت تحمل "كوكتيل" مخدرات ، بانجو وحشيش وأدوية محظورة!! ، وقد لفت نظري في ما عرضه المحامي العام حضور عاطفة واضحة لنفي أي اتهام للداخلية في القضية والتأكيد على أن سلوك الداخلية لم يكن مؤذيا للقتيل ، بل إن التقرير عندما تحدث عن تعرض القتيل لعنف بضرب رأسه في جسم صلب حرص على القول بأن هذا كان في محاولة للسيطرة عليه ، وهذه من الأعاجيب والأحاجي والألغاز ، إذ كيف اكتشف التقرير الطبي أن القتلة كانوا في حالة دفاع عن النفس ودفاع عن القانون ، وأنهم لم يكونوا يريدون إيذاء المواطن المسكين ولكنهم كانوا يحاولون "الطبطبة" عليه وأخذه بكل أدب واحترام وذوق إلى قسم الشرطة ، ولكن لما تمرد عليهم واعتدى عليهم اضطروا مع الأسف إلى ممارسة العنف لمحاولة السيطرة على "إجرامه" ، هذا المشهد الذي يمكن استشفافه من كلام كاتب التقرير الفضائحي سيكون من الصعب على ملايين المواطنين ابتلاعه ، إلا أن يكون كبير الأطباء وقتها كان حاضرا للحادثة ورأى بأم عينيه هذا المشهد وتفاصيله ، وحتى لو كان الأمر كذلك فإنه لا أظن أنه سيكون مناسبا وضع هذا التفسير والتحليل في التقرير الطبي ، وإنما يمكن أن يدلي بشهادته كشاهد عادي على ما رآه ، أيضا ستحتاج النيابة إلى طاقة هائلة من القدرة على التفسير والتحليل للتعارض بين التقرير الطبي المزعوم وشهادات الشهود الذين ذكروا أن القتيل كان يتحدث إلى القتلة ويستغيث من موته وهم يقولون له أنت ميت ميت ، وكيف لمن اختنق بلفافة محشورة في بلعومه يدير حوارا مثل هذا مع من يضربون رأسه في حديد المباني ، أيضا دفاع كبير الأطباء عن المخبرين بأنهم من الصعب أن يحشروا اللفافة في فم القتيل إلا إذا كسروا الفك كلام خارج عن اختصاصه ، ولا يليق به أن يتقمص دور المفتش كرومبو بمثل هذا الكلام الساذج الذي يرد عليه أن ضرب رأس القتيل ودخوله في إغماءة أو غيبوبة مؤقتة يسهل حشر أي شيء في جوفه ، المحامي العام بشرنا بأن النيابة سوف تستدعي رجلي الشرطة المتهمين بقتل خالد سعيد ، والحمد لله أن النيابة تذكرت هذه "الجزئية" البسيطة والتافهة!! ، إذ أن الناس كانت تستغرب أن تمضي التحقيقات كل هذا الوقت مع كل من هب ودب واستجواب الجميع حتى من كانوا يمرون مرورا عارضا في الطريق وقت الحادثة ، إلا من ارتكبوا الجريمة ، لا أحد تذكر أهمية سؤالهم أو إخضاعهم للتحقيق طوال كل هذه المدة ، كما لم يتذكر أحد بديهية أن يتم وقفهم عن العمل مؤقتا ، شيء عجيب ، ما حدث أمس زاد الناس إحباطا على إحباط ، والمؤكد أنه سيجعل الناس تكفر بكل شيء في هذا البلد ، وتفقد الثقة في كل مؤسسات الدولة ، بكل ما يعكسه مثل هذا الشعور من مخاطر اجتماعية وسياسية وقانونية ، كما أن مثل هذه الملابسات سوف تشجع بكل تأكيد على وقوع المزيد من الحوادث المشابهة من بعض رجال الشرطة ، لأن مرتكبيها سيدركون أنهم في مأمن من العقوبة ومن الردع الرسمي ، وأن تحالفا كبيرا من جميع أجهزة الدولة ستسعى لتبرئتهم وحمايتهم ، وقد كان واضحا منذ البداية وجود حملات منسقة إعلامية وسياسية وقانونية وأمنية أعلنت براءة الشرطة من القضية من أول يوم وقبل أي تحقيقات أو تقارير ، وأتصور أن المصريين سيكون أول ما يبحثون عنه في أي واقعة مثل هذه مستقبلا البحث عن "حكم أجنبي" ، مثلما يحدث في مباريات الكرة ، ليتوفر لهم الاطمئنان الكامل على صحة التقارير الطبية ، خطورة واقعة قتل خالد سعيد والتفكير في "طرمختها" أنها تعزز الانقسام الكامل والمروع بين الشعب من جهة والدولة من جهة أخرى ، وليس فقط بين الشعب والحكومة ، أصبح هناك إدراك متزايد بأن الدولة ضد الشعب ، والشعب ضد الدولة ، وهذه هي النتيجة التي أوصلتنا إليها مغامرات محدثي السلطة والنعمة في الحزب الحاكم . [email protected]