هل نحن عاطفيون وموسميون في تعاملنا مع القضايا الهامة، ولاسيما القضية الفلسطينية؟ خطر في بالي هذا التساؤل وأنا أشاهد ردود أفعال الشارع بعد الأحداث الأخيرة، التي شهدت القرصنة الإسرائيلية على أسطول الحرية، وما تبع ذلك من عودة الاهتمام مرة أخرى لقضية حصار غزة، قد يكون الكثير منا الآن في أشد حالات التعاطف مع القضية الفلسطينية، ولكني أتساءل هل سيستمر هذا التعاطف بنفس القوة لمدة أسابيع أو شهور.. فضلاً عن استمراره لسنوات قادمة؟ تألم الكثيرون بعد متابعتهم للأحداث الأخيرة، وتساءل البعض عما يمكن عمله على المستوى الفردي والشعبي، طالما أن الأنظمة قد صرفت النظر عن التعامل بجدية مع القضية الفلسطينية، وأنا اليوم أدعو الجميع للالتفاف حول "كريستين"، والتفاعل مع رسالتها التي وهبت حياتها من أجلها، فمن خلال ذلك يمكنك أن تخدم القضية بشكل فعال ومؤثر. نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية مؤخرًا تقريرًا مفصلاً عن تراجع مبيعات الشركات الإسرائيلية في الأسواق الأوروبية بنسبة تزيد عن 21%، وأكدت أن حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في أوروبا بدأت تؤتي ثمارها، وأصبحت تؤثر بجدية في الاقتصاد الإسرائيلي، لدرجة أن "دان كارتيفاس" رئيس قسم التجارة الخارجية في اتحاد الصناعات الإسرائيلية عقد اجتماعًا مع المسئولين الإنجليز، بهدف التغلب على مشكلة مقاطعة المنتجات الزراعية الإسرائيلية، كما جرى إعادة ترتيب الأوراق بين البلدين بخصوص تصدير المنتجات التي يتم تصنيعها في المستوطنات الإسرائيلية، والتي أصبحت مرفوضة تمامًا من المجتمع الإنجليزي، ليطالب "دان" الحكومة بأن تتدخل بشكل صريح لحماية الشركات من المقاطعة المتزايدة. المقاطعة هي السلاح الفعال، والمعركة الأطول، التي تركها رجال المقاومة للشعوب تديرها وحدها بعيداً عن دوي المدافع والرصاص، وهي كأي حرب لكي تنجح لابد لها من هدف واضح، وتحديد دقيق للخصم الذي سيتم مواجهته، حتى تحصد أفضل النتائج وتصبح سلاحًا رادعًا في المستقبل، كانت هذه هي رؤية "كريستين شايد".. تلك المرأة الأمريكية ذات الأربعين عامًا التي عاشت حياة هادئة في دراسة الفنون في "نيويورك"، وكانت لحظة التغيير في حياتها حينما جذبتها المظاهرات التي قام بها الطلبة المعارضون للحرب الأمريكية على العراق عام 1991، ومن ثم بدأ اهتمامها بالقضايا العربية؛ وقضية فلسطين بشكل خاص، حيث التحقت بجامعة "بيرزيت" في رام الله، للتعرف عن قرب على القضية الفلسطينية، ثم عملت أستاذة غير متفرغة في الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيسة للجنة الأبحاث في حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان. وهبت "كريستين" حياتها لفكرة المقاطعة الذكية التي تؤثر وتوجع وتساعد في تغيير الواقع، فدرست تجارب المقاطعة العربية في السنوات السابقة، حينما كانت توجه الدعوة لمقاطعة مفتوحة لعدد هائل من الشركات لأنها أمريكية أو انجليزية، دون امتلاك وثائق حقيقية تؤكد هذا الأمر، ولكثرة هذه القوائم واحتوائها على مئات الشركات، فقد فقدت المقاطعة جدواها ولم تعد تؤثر بشكل فعال على أداء تلك الشركات، ولذلك فقد بدأت كريستين في إجراء الأبحاث وتوثيق المعلومات لمقاطعة الشركات الأكثر دعما للكيان الصهيوني، أو تلك التي تقيم مصانعها في المستوطنات الإسرائيلية، والتي تعتبر في الأعراف الدولية أرضًا مغتصبة وغير شرعية. حملة المقاطعة الذكية لا تهدف إلى إغلاق الشركات الداعمة للعدو في العالم العربي بل إلى حثها على وقف دعمها ذاك، ونحن بذلك نرد على من يزعم بأن المقاطعة تتسبب في دفع الاقتصاد الوطني إلى الأزمة والبطالة، وحتى تكون أي حملة للمقاطعة فعالة يجب أن تكون أهدافها محددة بقائمة قصيرة من الشركات الأكثر دعمًا للعدو، ولفترة زمنية محددة يتم فيها قياس تأثيرها، كما يجب أن تهدف الحملة إلى توضيح أن تلك الشركات ليست كما تدعي وطنية مائة بالمائة، فإذا أخذنا شركة "ماكدونالدز" كمثال فان المكتب الرئيس للشركة في الولاياتالمتحدة هو الشريك الأهم للمكتب اليهودي في شيكاغو، الذي يقدم الهبات لدعم النشاط الاستيطاني بإسرائيل، ويروج للتربية الصهيونية، وللعلم.. فان الوكيل الموجود في كل بلد بالعالم يدفع للشركة الأم قرابة 45ألف دولار عن كل فرع جديد، ويدفع لها أيضًا ثمن الامتياز الذي يقدر بمبلغ يتراوح بين 500 ألف دولار ومليون ونصف المليون دولار، كذلك الأمر بالنسبة لشركة "كوكا كولا" والتي تعتبر الممول الأهم للوكالة اليهودية من أجل إسرائيل، التي تعمل على دعم علاقات إسرائيل بالشتات اليهودي وتشجيعهم على الهجرة إليها، كما أنها تقدم لموظفيها المهاجرين من روسيا محاضرات وفصول دراسية في تاريخ إسرائيل بهدف مساعدتهم على الاندماج سريعاً في المجتمع الإسرائيلي، بالإضافة إلى رعايتها للمنتخب الإسرائيلي لكرة السلة، ولا يتوقف الأمر عند الشركات الأمريكية فقط.. فهناك مثلاً شركة "نستله" السويسرية التي حصلت على جائزة اليوبيل الإسرائيلي من "بنيامين نتنياهو"، وهو أعلى وسام تمنحه إسرائيل تقديرًا منها للمنظمات التي تبذل أقصى الجهود لدعم اقتصادها، حيث تملك "نستله" 11 مصنعًا في إسرائيل، بالإضافة إلى مركز الأبحاث الرئيس للشركة في مستوطنة "سديروت"، هذا إلى جانب تبرع الشركة السخي في عام 2000 بمبلغ 20 مليون دولار لصالح صندوق تعويضات "الهولوكوست"، وهذه المعلومات وغيرها تم توثيقها من هيئات التجارة بإسرائيل، ومن المواقع الإلكترونية العبرية للشركات نفسها، والموجهة لمواطني إسرائيل من قبيل الفخر بالدعم الذي تقدمه هذه الشركات لهم. لم تكتف كريستين ورفاقها بحملة التوعية لمقاطعة مثل هذه المنتجات، بل كانت تجمع المواطنين وتقوم بالتظاهر السلمي أمام فروع تلك الشركات في لبنان، وتطالبهم بنقل الرسالة إلى الشركة الأم بأن تتوقف عن دعم إسرائيل، وإلا فإنها ستخسر السوق العربي الأهم مقارنة بإسرائيل، وقد حققت تلك الفعاليات نجاحًا ملموسًا، فعندما بدأت الحملة ضد شركة "برجر كينغ" كان الهدف منها واضحًا، وهو أن تغلق الشركة فرعها الجديد في مستوطنة "معالي أدوميم"، ورغم أن الشركة رفضت الطلب في البداية، إلا أنه بعد عقد المؤتمر الصحفي الداعي للمقاطعة الدولية للشركة، والتجاوب الملموس من بعض الدول، اضطرت الشركة إلى أن تغلق فرعها وتقدم اعتذارا عن ذلك، والجميل أن فكرة كريستين قد انتشرت في الكثير من دول العالم التي أعلنت مقاطعتها للشركات الداعمة لإسرائيل، ففي كل دول أوروبا بدون استثناء هناك العشرات من المنظمات الحقوقية التي تدعو بقوة للمقاطعة، حتى أن رئيس إحدى البلديات في فرنسا طلب بشكل رسمي عدم التعامل مع تلك الشركات في ولايته. والآن هل استشعرت معي قيمة هذا السلاح الذي يمكن لكل منا استخدامه بفاعلية، ولكن بشرط أن يتم العمل بشكل تنسيقي احترافي لا يعتمد على العواطف فقط، وإنما يرجع إلى الوثائق والحقائق والمعلومات؟ هل ستصبح أنت المبادر بتبني مثل تلك الحملة على نطاق واسع في بلدك؟ هل يمكنك أن تقنع رجال الأعمال الشرفاء بالدعم المادي والإعلامي لمثل تلك الحملة؟ لو استطعنا فعل ذلك فأنا أثق بأن المقاطعة ستصبح سلاحًا رادعًا لأي مؤسسة تفكر في دعم العدو، حينما تعلم أن في مواجهتها شعوبًا لا تزال تنبض بالحياة حتى وان أصابها بعض المرض أحياناً. [email protected]