و ماذا بعد يا سيزاريا؟ لقد قالت كلمتها هذه وغنت موسيقاها فوق خشبة المسرح وهي حافية القدمين تمردًا على ماضيها وتحديًا لمستقبلها بلا اكتراث لرواسب الاستعمار والعبوديّة والعنصريّة واستحضارًا لقيم الديمقراطية، إنها معادلة صعبة لا يمكن تحمل تبعاتها إلا إذا كان الإنسان متشبعًا بإيمان كبير بمنطق التغيير المبني على قاعدة إصلاحية، فالديمقراطية كنظام ثبت نجاعته في دول معينة اتسمت بالنضج والوعي المطلوب لرعاية وتطوير التجربة الديمقراطية والتعامل مع الاختلاف على المستويات المختلفة ذهنيًا ونفسيًا وسياسيًا وفكريًا، ليكون مطلبًا ضروريًا للانتقال إلى مربع الائتلاف والتوافق والتشارك بلا أدنى حزازات من أجل بناء مجتمع على أنقاض التحجر والتمترس وراء مصالح أنانية تؤذي أكثر ما تؤكد التناغم السياسي والثقافي وتحقيق قيم العدالة والكرامة والحرية، من هنا لا يمكن أن نقول إلا إننا في طريق الديمقراطية حتى يثبت العكس.. الديمقراطية في العالم العربي بعد الرجة التي انطلقت وعبرت معظم جغرافيته منذ 2011 لعبة، جزء منها يعيش في تقشف أو جوع في المعنى والمبنى الإبداعي والتمسك بالفرصة الكامنة داخل الأزمة، والجزء الآخر منها مخفي لا تكاد تتعرف على ملامحه ومن هنا لا يكفي التمرد على هذا الواقع لننعم بحسنات الديمقراطية التي يبشر بها عصر الفوضى، والنتيجة الآنية حسب السائد لا تهم فالشروط تتوزع على الرقعة والكل يحاول فرض ما يستجيب مع ما يطمع فيه أو يطمح إليه. بالعودة إلى المغنية سيزاريا فلم تكن تنتعل الحذاء تماشيًا مع منطلق ثقافي منتمي إلى تركيبة سكان أرخبيل الرأس الأخضر بالأطلسي الذين عانوا كثيرًا من العبودية وامتهان الكرامة الإنسانية، حيث حاربت بأغانيها كل شيء يهدد الكيان الإنساني المتمركز حول الكرامة والحرية والعدالة هذه الأنواع التي تمثل المكون الأساسي لأي نظام ديمقراطي يحترم ذاته، هذه الأنواع التي أصبحت نادرة ومهددة بالانقراض كما تعرف طيور تلك الجزر ومنها طائر الفردوس الذي يطلق عليه اسم "اليكزاندراز سويفت" والأفضل لتلك الرقعة الجغرافية هو الإصلاح من داخل الاستقرار. إذن الديمقراطية وصفة لا يمكن تحمل دوائها المر إلا إذا كنّا نريد الشفاء من وهم الحصول على كل شيء بالفهلوة وصيغة "البيضة والحجر" أو الفرض بالإكراه الفكري أو البدني، إذ على امتداد الجغرافيا العربية نرى أن هناك تجارب لا تعدو أن تكون إرهاصات للحالة الديمقراطية و بعض الدول انخرطت فيها مبكرًا إلا أنها أصيبت بداء التسويف حذرًا أو تحصينًا للمكتسب. عندما نعود إلى الحالة المصرية في الوقت الراهن وما تمر به الدولة من مخاضات صعبة خصوصًا ونحن نرى تلك الاستقطابات على الساحة السياسية والكل يريد الحفاظ على مكتسباته أو تعزيزها، نؤكد أن الفهم العميق لمعاني الديمقراطية سوف يتطلب أوقاتًا إضافية من التشبع بقيمها والتعامل مع إفرازاتها وعدم الخوف من مخرجاتها وتدريب جميع الفرقاء على التعايش بلا إقصاء أو تهميش أو فرض وجهة النظر بقوة الحشد أو حد السيف، لذلك فإنّ فرص عيش قيم الديمقراطية في هذه الحالة المصرية تحتاج إلى قدر كبير من الاستعداد للانفتاح على أهمية الحرية والمساواة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والابتعاد عن تخوين الآخر وإقصائه حتى لا تؤدي العملية الديمقراطية إلى نتائج عكسية. الديمقراطية حاليًا هي النظام الذي يرتضيه الواقع والظروف ومن ثم تعزيزه والتعامل معه استباقًا للأزمات أو إيجاد الحلول لها، وذلك ارتكازًا على منطق المسؤولية والحكامة الجيدة ضد أي سلوك حزبي أو فردي مستبد وفاسد ومتسلط. إن الديمقراطية نظام حكم منبثق من حق الشعب في تمثيل منتخبيه بكل حرية وشفافية وبدون ضغوط على جميع الأصعدة حيث إنه لابد من أن يكون قرار الشعب مستقلًا ومبنيًا على فهم عميق لما كان عليه في الماضي وماذا يريد في المستقبل، وبينهما كحاضر تبقى تلك المسافة للفهم والتفهيم وتطعيم جموع الشعب بأفضلية الحوار وعدم القلق منه وما ينتج عنه عندما يتركز على الحرية والمشاركة.