بعد اعتلاء الملك الراحل الحسن الثاني عرش المغرب أحيا سُنَّةَ الدروس الرمضانية انطلاقا من سنة 1963 و أعطاها نَفَسَهُ الخاص و سماها بالدروس الحسنية، بعد خمسين عاما لازلت مستمرة إلى الآن في عهد الملك محمد السادس.دروس رمضانية أعطت للمغرب بعدا آخر في تميز هويته الدينية و ذلك بعمله للحفاظ على الإسلام السني الوسطي والدفاع عنه بحيث انه لا مكان فيه للفروق العنصرية أو التنطع،دأب علماء أجلاء من جميع الأصقاع و بمختلف اللغات على المشاركة في هذه الدروس أمام الملك و ثلة من رجال الدولة و السلك الدبلوماسي الإسلامي إضافة إلى فقهاء و قراء لتتحقق لغة التواصل و التحاور التي تتبناه المملكة قيادة و شعبا وتحقيق الأنموذج الفعال المنوط بالعلماء الذين يرثون جينة المساهمة في رقي و خدمة المجتمع. هذه الدروس التي تتميز بها المملكة شكلا و مضمونا نعتبرها نبراسا و نقطة مضيئة في زمن يمر منه العالم الإسلامي و العربي من تحديات و تعثرات تحتاج إلى سلوك سياسي و ديني يمتاز بلغة الصفاء والمساواة والغاية القصوى التي يتوخاها هي كمال المعنوية. دروس أراد من خلالها أمير المؤمنين تثبيت و ترسيخ لمكانة العلماء والفقهاء والحرص على أن دورهم فعال في تحصين الانحرافات العقدية والدينية. إن مركزية إمارة المؤمنين و العقيدة الأشعرية ومذهب الإمام مالك إضافة إلى التصوف السني تشكل منظومة متكاملة في البناء الديني و السياسي داخل الدولة المغربية،و هو ما دفع هذه الأخيرة إلى عدم المقامرة في مسألة الهوية المغربية حيث ركزت على الخصوصية في هذا المجال حيث أن أي حركة إسلامية لم تنخرط في أي تنظيمات أممية مثل الإخوان المسلمين و توجهات إيران ما بعد الخميني فالدولة المغربية تؤكد على أن وحدة المذهب ضرورة امن روحي للمغاربة. الحرص على هوية المغرب لم يمنع الانفتاح على مكونات أخرى و أفكار جديدة فاعتلى منبر الدرس الحسني رموز كثيرة و متنوعة في العالم الإسلامي و العربي مذهبيا و عرقيا و اثنيا و لغويا لقد حضر كل من أبو الأعلى المودودي و متولي الشعراوي و الشيخ الطنطاوي و الشيخ محمود بن زهرة و عمر البشير رئيس السودان و الزعيم الراحل علال الفاسي مرورا بالشيخ يوسف القرضاوي الذي ألقى الدرس سنة 1983 و شيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحقو الدكتور عبد الصبور شاهين و الإمام موسى الصدر إضافة إلى علماء من أمريكا كالعالم الأستاذ خالد عبد الهادي يحيى، أستاذ الدين والتاريخ بجامعة بوسطن بالولايات المتحدةالأمريكية و كذلك علماء و قراء من الجمهوريات التي كانت مكونة للاتحاد السوفياتي البائد و بريطانيا و إفريقيا و آسيا و استراليا إضافة إلى علماء و فقهاء من المملكة ،و نحن نعلم أن الإسلام جاء لممارسة دوره التوعوي و تمكين المضطهدين من إسماع كلمتهم و الدفاع عنها و رفع الظلم و هذا هو الفهم العميق الذي كانت الدروس الحسنية تتماشى معه و ذلك بإفساح المجال لممثلي الأقليات الإسلامية ورموزها بتوصيل ما يهمهم و إبراز منطقهم و إعطائهم الكلمة للتعبير عن متطلباتهم فيما يسمى بفقه الأقليات. نعم المرأة لها موقع خطير و فعال أكد عليه الإسلام لكن أغمض حقها بعض المتزمتين و ذوي الرؤية الأحادية،عندما نأتي إلى مسيرة الدروس نجد انه تميزت في عهد محمد السادس باعتلاء المرأة لأول مرة المنبر الحسني في شخص الدكتورة رجاء الناجي المكاوي أستاذة بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط و توالت المشاركات تثمينا للدور المنوط بالمرأة في تحملها لمسؤولية أسرتها و مجتمعها. بالرجوع إلى تاريخ الدروس الدينية نجد أن لها عناية عامة عند السلالات التي حكمت المغرب و بشكل خاص من دولة العلويين حيث بدأت مع المولى الرشيد و انتقلت إلى أبا النصر السلطان المولى إسماعيل العلوي الذي أعطى أمره في إحدى الحالات للعلامة الإمام أبي عبد الله المجاصي بختم التفسير بقصره و بحضور علماء عصره و من ضمنهم الموصوف بصاعقة العلوم العلامة الفهامة الحسن اليوسي و قد كان هذا السلطان يقوم بخدمة العلماء ويصب الماء على أيديهم تعظيما لما يحملونه من علوم ،و انتقلت تلك العادة الحميدة عبر سلاطين علماء حتى وصلت إلى عهد الحسن الأول الذي كان يقيم دروسه الرمضانية في قصره حيث أن تواضعه للعلم و المعرفة و معرفته بخصوصية العلماء في دولته كان يجلس فوق زربية و أمامه المحاضر الذي يعطي درسه و الكل ينصت، تلك الطريقة التي انتقلت إلى دروس العصر الحديث مع فارق أن المحاضر يرتقي المنبر أمام أمير المؤمنين إجلالا للعالم و لقد ألقى الراحل الحسن الثاني دروسه و هو جالس في مكانه و لم يرتقي المنبر. إنها دبلوماسية المغرب الدينية التي برع فيها و أبدع في رأب الصدع بين عدة دول منذ القديم وضرب فكر الكراهية والتطرف والإرهاب حيث كان من أساسيات هذه الدروس ما أكده الحضور المتميز و الفعال لثلة من علماء لهم مكانتهم و دفاعهم عما هو وسطي و متسامح في الإسلام و قد كانوا يعبرون عن آرائهم بشكل حر و ملتزم و كانت لهم برامج أخرى موازية تمثلت في إلقاء دروس و محاضرات في المساجد و الجامعات داخل المملكة. كدأبها في التقليد أرادت الجزائر أن تستفيد من إشعاع الدروس الحسنية فقامت بمحاولة استنساخها و استغلالها تحت عنوان ما يسمى بالدبلوماسية الدينية،والواقع أن الأصل ليس كالصورة التي استنسخت منذ 2005 فكانت باهتة و لم تنجح البتة. في أواسط الثمانينات من القرن الماضي قدم العلامة الشيخ عبد الفتاح أبوغدة شهادته في الدروس الحسنية قائلا و هو يخاطب الملك الراحل الحسن الثاني:"لقد تفردتم في هذا العصر من بين الملوك والرؤساء بهذه السنة الحسنة وهذا الفضل الفريد،وتفردتم أيضا بأنكم حين تجمعون العلماء تجمعونهم لإعزازهم ورفع مقامهم ولإعلان شأنهم،تجمعونهم وتجلسون بين أيديهم متواضعين مصغين مجلين معتقدين بقداسة مايقولون من كتاب وسنة وفكر إسلامي صحيح سلفي أو خلفي ، فأنتم بينهم في مقام الشهود لهم بصدق ما ينقلون وحق ما يقولون" انتهى كلام الشيخ و هو من العلماء الأجلاء و شهادته تتعدى التملق و النفاق و إنما هو إعجاب حقيقي و قول حق، هذه الشهادة التي تمتد و ستبقى سارية المفعول إلى اليوم و هذه الدروس تقام في شهر رمضان من كل عام برعاية أمير المؤمنين. دروس بهذه المكانة و هذه الجدية في التناول تندرج تحت عنوان تبيين و تبصير الناس بمعاني الإسلام السامية و منهجه القويم الذي يساعد على فهم أمثل للحياة و كيفية التعامل معها و البحث عن حلول قمينة برفعة المجتمع الإسلامي و تقيده بالمشاركة الفعلية و الفعالة على هدي من تعاليم الفهم الصحيح و السليم للكتاب و السنة بلا إفراط و لا تفريط، في ظل ما استجد على عالمنا من اكتشافات علمية و تقنية و نظريات ثقافية و سياسية و اقتصادية،فالدروس الحسنية لم تعد تهتم فقط بما هو فقهي خالص بل تعدتها إلى البحث في عوالم ثقافية و علمية و اقتصادية...و حتى تعمم المعرفة فقد تم ترجمة تلك الدروس إلى عدة لغات من طرف وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية و ذلك لأهمية تلك الدروس و أصالتها و محتوياتها القيمة خدمة للإسلام الوسطي الذي يعطي للعقل منزلته باعتباره محط التكليف بدون غلو لأن عقلنا لا يمكنه أن يسع كل الحقائق. مسيرة تلك الدروس لم تنقطع و يمكن اعتبارها منارة و تعبيرا عن الاستثناء المغربي و نبوغه في جمع كل ما هو نافع و مساهمته في درء كل ما هو فاسد و متنطع و خارج عن العمق الحقيقي لإسلام التسامح و الشعور بالآخر و خدمة المجتمع الإسلامي و الإنساني بصفة عامة بكل مسؤولية و لعل الدرس الذي ألقاه وزير الأوقاف في هذا الشهر الكريم من سنة 2013 الذي يصادف الذكرى الخمسين لانطلاقة هذه الدروس في العصر الحديث تحت عنوان "الشعور الوطني عند المغاربة" يعبر عما أصبحت عليه هذه الدروس من أهمية و إلزامية في التثقيف و تدبر أمور الحياة و البحث في إشكالات الحياة اليومية بكل تجلياتها وصولا إلى اقتراحات و لما لا توصيات تترجم إلى قرارات مهمة و كذلك يكن اعتبارها نبراسا تقتدي به دول إسلامية أخرى اقتناعا بأهميتها و ليس تقليدا للاستهلاك الإعلامي فقط. و كان إنشاء دار الحديث الحسنية التي تهتم بعلوم الحديث والفقة والعلوم الشرعية من نفحات الدروس الحسنية بقرار الملك الراحل الحسن الثاني و في عهد الملك محمد السادس تم إطلاق "إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم".