نحن الآن في مصر حيث كانت مدينة "منف" التي انطلق منها الملك "نارمر" المؤسس لأول وأعرق دولة وطنية فى التاريخ،نفس البلاد تعيش حاليا أزمة انشقاق عن هذه الدولة و هويتها و عراقتها ،فهل سينتصر التاريخ و الحكمة على العُتْهِ و التهور في تدبير الشأن السياسي داخل هذا البلد العريق؟ قبل أسبوع كانت ما أُطْلِقَ عليه جبهة الإنقاذ هي المفوض السياسي داخل مصر لمعارضة حكم الإخوان، و محمد البرادعي كان من ابرز الوجوه المعارضة ولقد أطلقت بالونات اختبار تقول باختياره من سلطة ما بعد 30 يونيو 2013 ليكون رئيسا للوزراء، من المعارضة إلى تسيير دولة مصر في هذا الظرف الاستثنائي لن يقوم به إلا مغامرا أو مجتهدا أو من يمتلك في جرابه حيلا مبتكرة كثيرة.. لا يختلف اثنان على أن مصر تمر بمأزق سياسي عويص و امنها على المحك في ظل استمرار أعمال العنف و تعميق الاستقطاب السياسي الداخلي،فهذا البلد المحوري في الشرق الأوسط و الذي خبر السلام مع إسرائيل عبر اتفاقية كامب ديفيد بعد حرب رمضان 1973 تمر من أصعب فتراتها توترا و مخاضا في ديمقراطيتها الفتية،المعارضة كما نعلم فعل يضبطه التنظيم المحكم والمعتمد على ترسانة من الأفكار و الأهداف و الآليات السياسية و في بعض الحالات أدوات عنيفة من اجل انتزاع السلطة و تغيير النظام القائم أو المساهمة في إصلاحه بالتالي من غير الممكن أن تجد نظاما لا يصنع معارضته بشكل سلمي أو عنيف حسب الظروف السياسية و الاجتماعية السائدة. المعارضة التي كانت و الحالية المتمثلة في الاخوان ضروري أن تبحث عن طرق جادة للخروج بمصر من أزمتها الراهنة وإلا فقد تنقلب المعادلات و لن يكون هناك سوى لغة الدم و الفتنة لا قدر الله. جبهة الإنقاذ طرحت نفسها كبديل لنظام الإخوان الذي كان قائما بعد إفرازات رجة 25 يناير 2011 و بعد فترة حكم المجلس العسكري، إذن بعد حكم مرسي الاخواني وصلت الجبهة إلى ما كانت تصبو إليه و عينها على السلطة لتؤسس حكما آخر بخريطة طريق تقول بأنها ستدعم الأمن و الاستقرار.النظام السابق يعيش غصة مظلوميته والإخوان الآن أصبحوا في صف المعارضة لهذا النظام الجديد المطالب باحتواء الشارع و محاولة إرضائه، هذا الشارع الذي انتشرت فيه ثقافة نبذ الخصم و إقصائه سياسيا و جسديا .. انه الخطر الذي تتقدم فيه مصر بخطى متسارعة فالمعارضة التي تعتمد على الحشود و الحشود المضادة لا يمكن انضباطها إلى منطق التباري عبر صناديق الاقتراع خصوصا إذا كان طرف في المعادلة السياسية قد بدأ يكفر بتلك الآلية حيث أن التداول على السلطة من ايجابيات النظام الديمقراطي،إن المعارضة السابقة أصبحت الآن بأعتاب السلطة و إغراءتها و جبروتها و ليس موقع معارضة الحكم كممارسته خصوصا في وضع دقيق كالذي تمر منه مصر.و نعلم أن المعارضات المصرية كانت متفقة فيما بينها حول إسقاط نظام الإخوان لكن تياراتها المختلفة لن تلبث أمام إغراءات السلطة و الكرسي أن تجد لنفسها أجندة تحكم تفاعلها مع الوضع الانتقالي. فعلا تم تسليم الرئاسة لرئيس المحكمة الدستورية العليا الذي يبحث في تعيين رئيس للوزراء و الدخول في فترة تأقلم مع تداعيات ما بعد مرسي إذ أن كتابة دستور جديد تتطلب توافقا كبيرا حتى لا تتكرر تجربة الدستور الذي مررته سلطة الإخوان، و النتيجة هي تأجيل الانتخابات الرئاسية التي ستأخذ وقتا أطول مما يظهر.فهناك التيار السلفي الذي وقف ضد جماعة الإخوان أخيرا و الذي يهدد بالانسحاب من العملية السياسية، و هنا الخطأ الذي سوف ترتكبه الدولة المصرية حيث أن انسحاب أي فصيل سياسي من اللعبة بعد اتفاقه على قواعدها يطعن في أساسيات هذه اللعبة. نعم تحرك المعارضة السابقة و اللاحقة باعتبار أن الإخوان الآن قد دخلوا دائرة المعارضة هذا التحرك في العمل السياسي على مستوى الشعارات فقط دون المرور إلى عمق متطلبات المجتمع بكل فئاته المتمثلة في أمنه الروحي والغذائي و الثقافي و الأمن الاجتماعي و هذا يرتكز على إصلاح المنظومة الفكرية و الإيديولوجية التي تصنع البلاد بجميع مؤسساتها مما سينعكس على عقدها الاجتماعي الذي هو دستورها.فالتصالح مع الذات و نبذ التهور في بناء المؤسسات حتى لا تكون منتجا اعور او أعرج .من دولة الشخوص إلى دولة المؤسسات انه مطلب ضروري لكنه يحتاج إلى صبر و تضحيات حتى تخرج مصر من مزاج الشخصنة إلى تركيب آخر بعيد على التضييق و التكفير. البرادعي أم صباحي أو أشخاصا آخرين كانوا في صفوف المعارضة و الآن أصبحوا من الموالاة للسلطة الحاكمة من الممكن أن يتحملوا المسؤولية لكن فرص النجاح تبقى مرهونة بمدى استيعاب كل الحيثيات التي صاحبت العملية الجراحية التي قامت بها الدولة المصرية بنفسها و بمساعدة جراحين من خارجها،و الاهتمام بالطبقة الوسطى و الفلاحين و العمال كثلاثي وجب بالضرورة السياسية أن يتكاتفوا من اجل بناء معارضة حكيمة و قوية و أغلبية تتميز بحس المسؤولية. نظام مرسي تم عزله من المسؤولية و أنصاره يتظاهرون من اجل عودته و المطلوب هو انتصار الدولة لنفسها و احتواء مواطنيها حتى تتحقق مسألة الاستقرار و الانتصار أيضا للمنطق الديمقراطي غير المتملق تماشيا مع متطلبات العصر و تجاوزا للشخصنة نحو المؤسسة.