لا أستطيع أن أجد أي مبرر منطقي لصمت الحكومة المصرية والبرلمان المصري والنائب العام المصري على فضيحة رشاوى المرسيدس التي انتشرت تقاريرها مؤخرا ، إلا أن يكون هناك تواطؤ فاضح على حماية المرتشي المعروف والتستر عليه ، ربما لأنه يمسك "ذلة" على الآخرين ، القضية بدأت عندما تعرض أحد كبار موظفي شركة "ديملر بنز" المنتجة لسيارات المرسيدس لمشكلات مع الشركة وظلم وظيفي فادح ، فأراد الانتقام من الشركة فسرب وثائق دامغة إلى شركة أمريكية منافسة عن قيام شركة مرسيدس في الفترة من عام 1998 إلى عام 2008 بدفع رشاوى منتظمة إلى مسؤولين كبار في العديد من دول العالم الثالث من أجل تمرير صفقات سيارات وشاسيهات وغيرها من منتجات مرسيدس بالأمر المباشر بعيدا عن المنافسة الشريفة والتجارة المتسمة بالشفافية ، الشركة الأمريكية لجأت إلى هيئة سوق المال والتداول الأمريكية وقدمت لها المستندات والوثائق التي حصلت عليها ، فتم فتح تحقيق في الموضوع ، انتهى إلى اعتراف شركة "ديملر بنز" بالجرم المشهود ، وأنها قدمت رشاوى بلغت عشرات الملايين من الدولارات لمسؤولين كبار في إطار تمرير منتجاتها ، وهو ما اعتبرته هيئة سوق المال والتداول الامريكية خرقا لقواعد الشفافية والمنافسة الشريفة في الأسواق الدولية ، وانتهى الأمر قضائيا بإدانة الشركة وقضت المحاكم الأمريكية بتغريم "ديملر بنز" مائة وثمانين مليون دولار كعقوبة ملائمة للسلوك المعيب الذي سلكته الشركة ، إلى هنا والقضية تخصهم هم ، أما ما يخصنا نحن في مصر فهو أن التحقيقات في القضية كشفت عن أن أحد هؤلاء الذين تلقوا رشاوى من شركة مرسيدس لتمرير صفقاتها في مؤسسات حكومية مصرية ، هو "مسؤول حكومي مصري كبير" على حد وصف جهات التحقيق ، وقد حصل على ما يقرب من سبعة ملايين جنيه مصري رشوة في هذه العملية وحدها ، حاولت بعض الجهات السياسية أو الإعلامية الحصول على اسم "المسؤول المصري الكبير" الذي تلقى رشوة مرسيدس ، إلا أن الجهات الأمريكية امتنعت عن التصريح باسمه ، وقالت متحدثة باسم وزارة العدل هناك أنهم يملكون اسم المسؤول ولكنهم لا يتعاملون في طلبات الكشف عن أشخاص في هذا الموضوع إلا مع جهات رسمية ، فإذا طلبت جهة رسمية مصرية الملف يمكن أن نسلمه لها ، ومن ساعتها والنداءات متوالية لرئيس الوزراء أحمد نظيف ، وللنائب العام عبد المجيد محمود ، ولرئيس مجلس الشعب أحمد فتحي سرور ، من أجل أن يتحرك أحد في البلد ويخاطب الجانب الأمريكي رسميا بطلب الملف ، لكي تأخذ العدالة مجراها في مصر ، لكن الجميع جعلوا أذنا من طين وأخرى من عجين ، وهو ما وضع علامات استفهام كبيرة جدا ، وليست علامة استفهام واحدة ، عن طبيعة هذه الشخصية "الرفيعة" التي حصلت على الرشاوى من مرسيدس ، وأيضا عن سر هذا الصمت المطبق والمحرج جدا للحكومة المصرية والدولة المصرية بكامل أجهزتها ومؤسساتها ، لأنها بدت في صورة المتستر على المجرمين والمرتشين ، وبطبيعة الحال مثل هذا الصمت والتواطؤ على إخفاء اسم الشخص ، يجعل الفرضيات تذهب إلى أسماء كثيرة ، في أعلى هرم السلطة وفي وسطها كذلك ، لأن الصفة التي أطلقتها جهات التحقيق على المسؤول المصري تعني أنه شخصية لا تقل عن وزير ، ويمكن أن يكون رئيسا للوزراء ، لأن هذا الوصف لا يطلق على وكيل وزارة مثلا ، كما أن صلاحيات منح الأمر المباشر في مثل هذه التعاملات الكبيرة لا يمكن أن تصدر إلا من وزير كحد أدنى أو ما يعلوه ، المشكلة أيضا أن تعاملات مرسيدس كانت متنوعة ومع جهات عديدة ، منها جهات سيادية ، وبدون شك ، فإن واقعة مرسيدس ليست هي الواقعة الوحيدة في مسلسل الفساد الرسمي واسع النطاق ، ولكنها هي الواقعة التي تم الكشف عنها مصادفة ، فكانت فضيحة ، والحظ الأغبر لهذا المسؤول المصري جعل موظف "ديملر بنز" يختلف مع قيادة الشركة ويسلم "وثائق" الاتهام بالرشوة لهيئة سوق المال والتداول الامريكية ، وإلا كان قد ظل في ستر يطل علينا بطلاته البهية في التليفزيون الرسمي للدولة . [email protected]