للمرة الثانية خلال فترة وجيزة تكرر معظم فئات المعارضة المصرية نفس الخطأ الذى وقعت فيه فى واقعة خطف الجنود السبعة فى تعاملها مع قضية تحويل مجرى النيل الأزرق فبدلا من أن تتعامل مع هذه القضية من منطلق أنها قضية وطنية تمس الأمن القومى المصرى الذى يجب أن يعلوا على أى اعتبار آخر،وجدنا المعارضة تلجأ الى المزايدات السياسية وتصفية الحسابات وتحاول - كما فعلت فى قضية الجنود- أن تستغل الموقف للنيل من رئيس الجمهورية وتحميله مسئولية البدء فى مشروع السد مع أن الحديث عنه يمتد لسنوات سابقة،وتم وضع حجر الأساس له منذ عامين ولم يكتف البعض بذلك بل حاولوا لمز الرئيس والإخوان فى وطنيتهم واتهامهم بالتواطؤ مع إثيوبيا فى استمرار للمسلسل الهابط باتهام الإخوان ببيع أجزاء من الوطن مثلما اتهموهم ببيع حلايب للسودان،وسيناء للفلسطنيين،والقناة لقطر،ولا أدرى إذا استمر مسلسل البيع هذا- على حد زعمهم - هل سيجد الإخوان شيئا يحكمونه ؟!!! لقد ذهب حسن البنا فى تصوره للأمن القومى المصرى وتأمين الحقوق الوطنية لوادى النيل فى الجنوب الى مدى ربما لم يصل اليه أحد غيره حيث طالب فى سبتمبر عام 1945 "بأن تحفظ حقوقنا فى الإرتريا ثم زيلع ومصوع وهرر وأعالى النيل تلك المناطق التى اختلط بتربتها دم الفاتح المصرى ،وعمرتها اليد المصرية ثم اغتصبت من جسم الوطن ظلما وعدوانا ،وليس هناك اتفاق دولى أو وضع قانونى يجعل الحق فيها لغير مصر..." فحسن البنا يطالب باسترداد هذه الأماكن التى خضعت لمصر وكونت الإمبراطورية المصرية فى إفريقيا والتى وصلت أوجها فى عهد الخديوى إسماعيل والتى أجبرت مصر على الانسحاب منها بعد الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882 ويؤكد البنا على أهمية تأمين الحدود المصرية " ومن واجبنا ألا نتلقى حدود بلدنا عن غيرنا وأن نرجع فى ذلك الى تاريخنا لنرى أى ثمن غال دفعناه من الدماء والأرواح فى سبيل تأمين حدودنا لا لمطامع استعمارية ولا لمغانم جغرافية ولكن لضرورات لامحيص منها ولامعدى عنها والفرصة الأن سانحة لتطالب مصر برد ما أخذ منها .." أعتقد أن ماطالب به حسن البنا عام 1945 يمكن تفهمه الآن فى ضوء مايثيره بناء سد النهضة من مخاطر على الأمن القومى المصرى، وربما كان هذا الكلام لو ذكر فى وقت سابق لقوبل بالتهكم والسخرية!!! بعيدا عن هذه المهاترات التى تثيرها المعارضة علينا التوقف حول طريقة التعامل مع هذا التحدى والبدائل والخيارات المطروحة أمام صانع القرار فى مصر لمواجهته أول ما يلاحظ حول هذه الأزمة هو غياب المعلومات الدقيقة والموثقة حول هذا السد والمخاطر الحقيقية المترتبة علية ومن يطالع آراء الخبراء والمتخصصين فى هذا المجال يجد تضاربا كبيرا فى آرائهم فالبعض وهو العدد الأقل ذهب الى عدم وجود مخاطر وآثار سلبية للسد على مصر بل ذهب بعضهم أنه ربما يحقق بعض الآثار الإيجابية ،أما العدد الأكبر فقد ذهب الى التأكيد على الآثار السلبية للسدعلى مصر،وإن تباينت الآراء حول مدى وحجم هذه الآثار إن هذه الآراء تعكس غياب المعلومات الدقيقة حول هذا السد والذى يمكن بناء رأى علمى على أساسها يوضح بدقة حقيقة مدى الآثار السلبية المترتبة عليه،ولذلك كان من الحكمة انتظار تقرير اللجنة الثلاثية المشكلة من مصر والسودان وإثيوبيا وخبراء دوليين محايديين لدراسة هذا السد،والتى انتهت بالفعل من عملها،وإن لم يعلن عنه رسميا حتى الآن إن هذا التقرير بعيدا عن مدى إلزاميته هو وثيقة علمية لها مصداقيتها خاصة أن الأطراف الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا ممثلة فيها ،فهذا التقرير يعطى للخبراء فى مصر معلومات دقيقة يمكن من خلالها معرفة الآثار المترتبة على بناء السد بدقة وفى كل الأحوال وأيا كان مدى تاثير هذا النهر فإنه ينبغى توجيه رسالة واضحة ليس فقط لإثيوبيا ودول حوض النيل بل للعالم بأسره بأن مصر لن تقبل بأى حال من الأحوال المساس بحصتها من مياه النيل، كما أنها لن تقبل بقيام دول المنبع بإنشاء سدود أو أى أعمال هندسية تؤثر على حصة مصر دون إخطار، وموافقة مصرية مسبقة،وهذه حقوق تاريخية أكدتها المعاهدات والاتفاقات الدولية التى لامجال للمساس بها كما يجب التأكيد أن جميع الخيارات مفتوحة فى التعامل مع هذه الأزمة وأن من الخطأ تصور أن الأوضاع الداخلية فى مصر قد تؤثر على موقفها أوتدفعها للتهاون فى حقوقها وإذا كان من المستهجن مسارعة البعض الى دق طبول الحرب والمطالبة باللجوء للخيار العسكرى،كما فعلوا مع واقعة خطف الجنود فى سيناء فإنة ليس من الحكمة إعلان استبعاد الخيار العسكرى كما أعلن وزير الرى إن الخيار العسكرى ينبغى أن يبقى الخيار الأخير الذى يتم اللجوء اليه إذا أصمت إثيوبيا أذنيها عن الاستجابة لصوت العقل والمنطق ،وإذا لم تدرك أن قضية المياه هى قضية موت أو حياة، وأنه لاجدوى من وجود قوات مسلحة إذا لم تتحرك فى مثل هذه الأزمة إن هناك العديد من الخيارات للتحرك أمام مصر ومنها :. الخيار الأول : التفاوض المباشر مع إثيوبيا للتفاهم على بناء السد بما يحقق مصالح إثيوبيا دون الإضرار بمصالح مصر وفق القاعدة التى وضعها الحديث الشريف لاضرر ولا ضرار من خلال مشاركة مصرية فعالة فى متابعة بناء وإدارة السد هذا إذا كان وجود السد فى حد ذاته لايمثل خطرا على مصر إن على مصر أن تطرح على إثيوبيا ودول حوض النيل التعاون فيما بينها لتحقيق الاستغلال الأمثل للمياه من خلال مشروعات مشتركة خاصة أن المستغل فعلا من المياه لايتعدى 5% من مجموع مايزيد عن 1600مليار متر مكعب من المياه تذهب هدرا، كما أن على مصر أن تمد يد العون الفنى لمساعدة إثيوبيا ودول حوض النيل بصفة عامة الخيار الثانى:.اللجوء للمنظمات الإقليمية والدولية لدعم الموقف المصرى الذى تسانده المعاهدات والاتفاقيات الدولية فضلا عن قواعد القانون الدولى التى تحكم العلاقات بين الدول المشتركة فى الأنهار الدولية الخيار الثالث:. التدخل لدى الجهات والدول المشاركة فى عملية بناء السد أيا كانت صور هذه المشاركة،وتوجية رسالة واضحة إليها أن موقفها يشكل عمل عدائى ضد مصر سينعكس بالسلب على علاقاتها بنا الخيار الرابع :. تقوية العلاقات المصرية مع الدول المعادية لإثيوبيا وعلى رأسها إرتيريا والصومال ،وتقديم كافة صور الدعم لها وعلى رأسها الدعم العسكرى، وكذلك دعم حركات المعارضة الإثيوبية الخيار الرابع: الخيار العسكرى والذى ينطبق عليه قول العرب آخر الدواء الكى فيجب أن يكون الخيار الأخير إذا انقطعت جميع السبل،وأوصدت كل الأبواب وإذا كان على صانع القرار أن يتصرف بهدوء وعقلانية فى التعامل مع هذه القضية مع الإصرار والحزم فى التمسك بحقوق مصر التاريخية فإن هذه القضية ينبغى أن تطرح وبقوة قضية نقص المياه أو بمعنى أدق الفقر المائى فى مصر وهى القضية التى يجب أن تشغلنا جميعا حتى فى ظل احتفاظ مصر بحصتها الحالية من مياه النيل والبالغة 55.5 مليار متر مكعب، وهى حصة لاتكفى مصر الآن فضلا عن الاحتياجات المتزايدة فى المستقبل لهذا يجب العمل فى نفس التوقيت على معالجة هذه المشكلة على صعيدين الأول: ترشيد استهلاك المياة ونشر الوعى بين المواطنبن،وفرض عقوبات رادعة على إساءة استخدام وإهدار المياه،ومعالجة الصور السلبية المنتشرة فى المجتمع فيما يخص استخدام المياه إبتداء من رش الشوارع بخراطيم المياه والصنابير التى لا تنقطع المياه منها ليلا أو نهارا مرورا بإهدار المياه عن طريق الزراعة بطريق الغمر،واستخدام المياه فى ملاعب الجولف الى غير ذلك من صور إساءة استخدام المياه فى بلد من المفترض أنها لاتملك مثل هذا الترف الثانى :. البحث عن بدائل لزيادة نصيب مصر من المياه مثل الآبار وإعادة استخدام مياه الصرف،وتحلية مياة البحر فضلا عن التعاون مع دول حوض النيل من خلال مشروعات مشتركة لاستغلال المياه المهدرة،والتى ستعود بالنفع على الجميع،وأود أن أشير سريعا فى هذا الصدد لنموذجين طرح أحدهما نظريا ولم يطبق، والثانى الذى وجد طريقه للتطبيق العملى :. الأول : مشروع المحافظة على مياه النيل فى المستقبل وهو مشروع وضعته وزارة الاشغال المصرية (وزارة الرى ) عام 1946 وكان الهدف منه الاستفادة من المياه التى تسقط على دول حوض النيل عن طريق تخزين المياه،وتقليل الفاقد منها بما يحقق الفائدة لجميع دول حوض النيل وقد انقسم المشروع الى مرحلتين الأولى وتشمل التخزين على الحبشة والبحيرات الإستوائية، أما المرحلة الثانية فتشمل حوض السوباط وبحر الغزال ولكن هذا المشروع لم يجد طريقه للتنفيذ نظرا للظروف الخاصىة بالدول الأفريقية فى تلك الفترة الثانى : خزان شلالات أوين فى أوغندا وكان الهدف منه توليد الكهرباء عن طريق بناء سد على هذه الشلالات،وقد رأت الحكومة المصرية أن بناء هذا السد يحقق سياستها القائمة على تخزين المياه، وتكوين احتياطى من المياه فى بحيرة فكتوريا،ولهذا وافقت على هذا المشروع الذى يحقق مصالح البلدين وإن كانت قد طالبت بزيادة ارتفاع السد،وقد تحملت الحكومة المصرية التكاليف المالية التى ترتبت على ذلك،وتم توقيع الاتفاق مع بريطانيا التى كانت تخضع لها أوغندا فى ذلك الوقت