التسول هو ظاهرة قديمة قدم التاريخ. اختلفت أسبابه باختلاف الأماكن والأزمنة ونظم الحكم المختلفة عبر العصور. وكظاهرة اجتماعية نراه ينتشر فى كل المجتمعات والدول. اتخذ من الأساليب والحيل ما حيرت العلماء والباحثين فى فهمه، ومعرفة كيفية ابتداع المتسولون لطرق وأدوات جديدة كل يوم وليلة. ولو رجعنا إلى ديننا الحنيف لوجدنا أنه قد عالج هذه الظاهرة فى منبتها وجذورها. فكم من الأحاديث النبوية والآَيات القرآَنية التى نهت عنه وحذرت منه، وحرضت الناس على العمل. ولعل الأوامر النبوية الداعية للعمل والتعفف عن سؤال الناس، والمحرضة على إخراج الزكاة وإنفاقها على مستحقيها، كلها أمور تحارب ظاهرة التسول فى منبعها وتحاصرها. غير أن ابتعاد الناس عن الدين الحنيف، واستسهال الكسب السريع، وانتشار الفقر بصورة غير مسبوقة، زاد من أعداد المتسولين فى الشوارع والطرقات وعلى أبواب المنازل بصورة كبيرة. فالتسول أصبح عرضًا لمرض يشل أعضاء الوطن، تقرأه فى أطفال الشوارع ووجوه المرضى، وفى الجريمة وفى كل الأمراض الاجتماعية التى تنهش تلك الأعضاء وتفتتها. لهذا، نجد أنه من غير المعقول محاربة المتسولين، عبر القبض عليهم وإلقائهم فى السجون. بل لا بد من خلق مشروعات اقتصادية توفر لهم فرص العمل، بعد إعادة تأهيلهم، وضمان تحديد الظاهرة وعدم استفحالها مستقبلاًَ. حينما تمر على المساجد والطرقات والشوارع والمحطات وتراها مكتظة بالمتسولين، ولا أحد يتحرك، فهناك خطأ تاريخى قد وقع، وجريمة تمت على مرأى من الناس ومشهد! وحينما نخرج أفلامًا تناقش الظاهرة وتفضحها، ونكتب دراسات نوعية وأدبية ومتخصصة، تعرى المسلك وتكشفه، ولا أحد ينطق ببنت شفة، فهذه كارثة! وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم ينصحنا بألا نكون عالة على الناس، ونصر على أن نفعل، فتلك مصيبة! كثير من المتسولين تخلوا عن آَدميتهم فى سبيل لقمة العيش، وبعد مدة تحولوا لمجرمين وقتلة. صحيح أن كثيرًا من المتسولين دخلوا كار التسول كمدعين ومستسهلين لعملية الارتزاق، إلا أن التخلى عن الكرامة وقبول الفرد منهم أن يكون عالة على غيره، فهذا أمر جديد على المصريين بهذا الشكل الجماعى. فشعبنا أخلاقياته كريمة، وسلوكه شريف، وبالتالى يرفض أن يصنف فى قائمة الشحاذين والمتسولين. فهناك نماذج نقابلها، وعاشت بيينا، نعلم أنها لا تملك من حطام الدنيا شيئًَا، لكنك إذا عزمته على طعام أو شراب، يتعفف ويقسم أنه شبعان ولا منفس لمعدته. ترى ما الذى غير طبائع هذا الشعب الكريم ليستسهل الارتزاق والوقوف فى الشوارع والطرقات، يتكفف الناس ويسألهم الحاجة والمعونة؟ ما الذى جعل أسرًا بكاملها تقف فى الشوارع تتحنن الناس، وتطلب المساعدة؟ المتسولون فى بلادنا أنواع: منهم من تضطره الظروف عمليًا لولوج هذه الطريق، كموت عائل، أو إنفاق على مرض. وهناك من يتخذ التسول قناعًا للاحتيال والنصب على خلق الله. وهناك أسر ليس فى جذروها أى فروع للتسول، ومع ذلك دخلت المجال من أوسع أبوابه. وهناك من يتخذها مهنة وحرفة، وغير مستعد لتركها، ولو قُدمت له من الرواتب والوظائف ما يسد الرمق. نحن فى خطر وظاهرة أطفال الشوارع تستشرى مع التسول. والخشية كل الخشية أن الأمر يستفحل أكثر، ولا يصبح فى الإمكان حصار الظاهرة أو معالجتها. جدير بالذكر أن ظاهرة التسول لا تقتصر على الأفراد فحسب، بل هناك دول تمارسه بالليل، وتتنفسه بالنهار. وهناك دول تُفشل نفسها بنفسها، لتعيش عالة على المجتمع الدولى، تطلب المعونة من هنا والمساعدة من هناك. وهناك جماعات داخل دول، لا هم لها إلا جعل دولها تعتمد على المعونات والمساعدات، كونهم الرابح الأكبر من ورائها. بل هناك من الدول ما يسعى للحصول على صك الإفلاس، لإسقاط الديون التى غرقوا فيها وغاصوا. والمستعرض لأوراق البنك الدولى ووثائق صندوق النقد الدولى، سيعثر على عشرات من هذه النماذج التى نتحدث عنها. وبالطبع نحن لا نريد لدولتنا العفية أن تسلك هذا الطريق أو تقترب منه أبدًا، فآَخره حصرة وندامة. جربناها فى عهد الخديو إسماعيل، فكان الاحتلال البريطانى لنا لمدة تتجاوز السبعبن عامًا. فترى أى طريق نسير فيه؟ أعتقد أن ظاهرة التسول الفردى هى التى تكشف ظاهرة التسول الأممى وتفضحها. وهى التى تعرى أولئك الشياطين الذين يتاجرون بآَلام الناس ومصائبهم، للحصول على الأموال والقروض. وأعتقد أننا لو قدمنا مشروعات مدروسة تعالج تلك المشكلة من جذورها، وتعمل على استئصالها قبل الورم، لوصلنا إلى أحد النقاط المهمة فى مشروع العدالة التى نسعى لتحقيقه جميعًا بعد الثورة. فبرنامج العدالة سَيُخدم على برنامج الكرامة الذى رفعته ثورتنا المباركة ضمن مطالبها الرئيسية. فإذا حفظنا للناس كرامتهم، بعدم اضطرارهم للسؤال والتسول، وعلمناهم خطورته وأمراضه الاجتماعية المنتشرة تحت مظلته، سنكون بذلك قد أسهمنا فى حفظ كرامة شعبنا الكريم، وأرجعنا له بعضًا من حقوقه الضائعة. حفظ الله الوطن ورعاه من كل سوء.
د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة